مقالات

جو قديح: الحياةُ وهمٌ جميل و”القصة كلّها” اختزالٌ للصدمات المتلاحقة التي عشناها

خمسُ سنواتٍ مضت على لبنان كانت كفيلةً بقلب الموازين في حياة كلّ فرد، فكيف إذا كان هذا الفرد فنانًا، يحمل على كتفيه همّ الوطن، وهمّ التعبير عنه؟ في هذا الحوار الصريح، نستعرضُ شهادة الفنان جو قديح الذي عرض مسرحيته الجديدة “القصة كلّها” على مسرح كازينو لبنان، وهي اختصارٌ للسنوات الخمس الأخيرة التي عاشها اللبناني بصدماتٍ متلاحقة وتفاصيل مؤلمة. بين المسرح والرسم والكتابة، قصّة إنسان يرى في الفنّ مسؤوليّة، وفي الكلمة موقفًا، وفي الوطن وجعًا يستحق أن يُروى.

 

جو، ارتبط اسمك بالمشاكسة والطباع الثائرة. لماذا؟

أنا ثائرٌ بطبعي ومشاكسٌ لأنني أريد الأفضل لبلادي. ولكنني في الوقت نفسه أرفض منطق التخريب فهو لا يشبهني أبدًًا. كانت مطالبنا محقّة حين شاركنا في الثورة مثلًا، وهي الفترة التي ذاع صيت مشاكستي فيها، ولكنّنا كنا نبحث عن بناء الدولة ومؤسساتها آنذاك، لنكتشف لاحقًا أنّ بعض المجموعات كان ضدّ الجيش والدولة للأسف، وكان هدفه الفعلي من المشاركة في الثورة هو التخريب فقط. ولكنّي لست بالمشاكسة نفسها اليوم كما كنت في بداياتي. كنتُ مثلًا شديد الانتقاد تجاه بعض ممارسات الأمن العام اللبناني، أما اليوم فأقدّر أكثر حجم مسؤولية ضبط الأمور بالشارع، لأنّني الشخص نضجت وأصبحت والدًا، ولأنّني رأيت بلادي تنزلق نحو مناخاتٍ غير مُستحبّة. لذا تراني اليوم مؤيّدًا ليس للرقابة المطلقة، ولكن لوجوب فرض الاحترام للمؤسسات.

 

كأنّك نقلت ثورتك الى كتاباتك المسرحية بعد فشل تجسيدها على الأرض.

فعلًا، فقد تناولتُ في كتاباتي موضوعاتٍ مختلفة تهمّ الشعب اللبناني فسلّطت الضوء على الآفات الاجتماعية والفساد وتقاعس الدولة، ولكنني في الوقت نفسه حمّلت الشعب اللبناني مسؤولية تردّي الأوضاع لأنّه شريك في كلّ ما يحصل بسلوكه وتعامله مع الأحداث والمستجدّات. أنا مقتنعٌ بأنّ الشعب هو من يصنع الدولة على صورته. ونعاني اليوم انهيارًا تامًا في المؤسسات والمؤسسة الوحيدة الصالحة والتي تستحق الاحترام هي الجيش اللبناني.

 

وكيف واجهت الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالبلاد؟

يسألني البعض لماذا لم أقدّم شيئًا جديدًا في السنوات السابقة. لم أكن غائبًا عن الساحة، فأنا كنت منشغلاً بالمسرح والرسم وبتأليف كتاب، وبالدراسة.

ولكنني كنتُ، مثل معظم اللبنانيين، تحت وطأة الصدمات المتلاحقة، وقد اختبرتُها بنفسي في “مسرح الجميزة” بمدرسة “الفرير”، الذي كان بمثابة بيتي الثاني، حيث عملتُ مع الشاب الرائع عبده عطا وصديقي العزيز شادي أبو شقرا، وقد استُشهدا في انفجار المرفأ فكان فقدانهما موجعًا للغاية. عجزتُ عن استثمار ما عشته من صدمةٍ فورًا. فقدتُ آنذاك قدرتي على التعبير الفوريّ لِهول ما حدث.

كنا بحاجة الى وقتٍ لاستيعاب ما حصل. حتى اليوم لم نستفق من الصدمة بعد.

 

وهل خسرتَ أموالَك في المصرف كمعظم اللبنانيين؟

نعم للأسف، فقدتُ أموالي كلّها. لكن ماذا كنت تريدني أن أفعل؟ قرّرتُ عدم الاستسلام لليأس وحوّلت طاقتي الى العمل الفنّي. حتى في الحرب الأخيرة التي عشناها لم أكتفِ بالمراقبة، بل نزلتُ الى الأرض لمساعدة الناس التي تهجرّت من بيوتها خصوصًا على الصعيد النفسي. مرّ لبنان بظروفٍ صعبة للغاية لا يتخيّلها عقلٌ ولا منطق. خسرتُ بدوري “مسرح الجميزة” الذي رمّمتُه واضطررت الى التخلّي عنه لاحقًا بسبب خطّي السياسي المؤيد للدولة والجيش الذي لم يعجب أحد المسؤولين. ما رأيناه في الصدمات هذه كلّها هو أنّ بعض القصص كان مبرمجًا، بمعنى أنّ بعض الجهات “عربش” على فكرة المطالبة المحقّة بالحقوق خلال الثورة لتنفيذ أجنداتٍ أخرى هدفها السيطرة على عقول أطفالنا وتحوير ثقافة العيش المشترك وتقبّل الآخر والانفتاح عليه مهما كانت معتقداته.

 

مسرحية “القصة كلّها” التي قدّمتها على مسرح “كازينو لبنان” هي اذًا خلاصة هذه السنوات والصدمات كلّها.

نعم. تدور القصة حول شخصٍ أمثّل دوره أنا يقصدُ معالجًا نفسيًا يردّ عليه بالموسيقى بدلًا من الكلام. وهي اختزالٌ لكلّ ما عشناه من أزماتٍ متلاحقة، فقد شهدنا أحداثًا هي أبعد من مجرّد مشاكل عادية. عانينا الذلّ حتى في بيوتنا، أو أثناء وقوفنا في طوابير المصارف، وعلى أبواب المستشفيات. يكفي أن نذكر ما يعانيه جيشنا من ذلّ خصوصًا أنه ما عاد يملك حتى قوتًا يكفيه، فتقتصر وجباته على الحبوب فقط وتغيب عنها اللحوم، وأصبح بحاجةٍ ماسة الى مساعدةٍ من الخارج. ليس الجندي في الجيش متسوّلًا. هو “تاجٌ على رؤوسنا” وفخرٌ لنا جميعًا. أرفض اختصار المسألة كلّها بكلمة “الصمود”، وأن ندّعي بأننا أقوياء وصامدون وقادرون على السهر حتى على وقع الصواريخ فوق رؤوسنا. قد نكون صامدين نعم، ولكن يجب أن نغيّر هذا الواقع الأليم.

 

أما زلت مؤمنًا بأنّ لبنان يملك فرصةً للنهوض؟

أمامنا اليوم فرصة ذهبية لتغيير هذا النظام الطائفي والرافض للآخر، فزعماء الطوائف يعملون على تفرقتنا، بينما اذا زرتَ أيّ منطقة في لبنان اليوم لقيتَ ترحيبًا كبيرًا مهما كانت خلفيّتك. زعماء الطوائف يريدون أن نتقوقع على ذاتنا، وأن يمنعونا من نشر رسالة الانفتاح التي هي في صلب الكيان اللبناني. من هذا المنطلق بالذات استبدل زعماؤنا جبالنا الجميلة بالكسارات ولوّثوا مياهنا وخرّبوا وطننا. المشكلةُ هي في أننا سمحنا لهؤلاء بالدخول الى منظومة الدولة فكنّا بذلك شركاء في الجرم.

 

بما أنّك تتحدّث عن وجود فرصة ماذا تطلب من وزير الثقافة؟

لا أطلبُ منه شيئًا، فأنا لا أعرف ما هو برنامجه. كلّ ما أعرفه هو أنّه كان جزءًا من المنظومة ولن أطلب منه ما هو واجبُه أساسًا، كأن تكون هناك نقابةٌ واحدة محترمة فقط للفنانين، أو ضمانٌ للشيخوخة، أو حقٌّ في الاستشفاء. أذكر هنا مثلًا قصّة زميل عزيز عليّ اتصل بي أخيرًا هو الممثل غازاروس ألتونيان الذي مثّل دور الأرمني في مسرحيات زياد الرحباني، وأعتذر هنا لذكري اسمه. أُصيب ألتونيان بحادثٍ أقعده في المنزل لأكثر من شهريْن حتى اليوم. ألا يستحقّ هذا الرجل لفتةً؟ نشكرُ مساعدة وزارة الصحة لبعض الفنانين، ولكن هذا أساسًا واجب وليس منّةً من أحد، من فادي ابراهيم، الى كمال الحلو، الى أماليا أبي صالح، واجبُنا الحفاظ على كرامة الممثل ليس فقط كمجهودٍ من النقابة ولكن كذلك كبادرةٍ جميلة هي واجبٌ على الدولة المحترمة أولًا.

 

وماذا تطلب من النقابات؟

النقيبان جورج شلهوب ونعمة بدوي من أعزّ أصدقائي. ولكنّهما يعرفان أنّ توحيد النقابتيْن ضروريّ لتحقيق نتيجةٍ أفضل. لبنان بلدٌ صغير ويحتاج الى نقابةٍ واحدة لا تتعامل مع الممثلين بناءً على طائفتهم، وتعمل فقط على ضمان كرامة الممثلين وحقوقهم وعلى حماية هذه المهنة من التعدّيات. فما نشهده من تعدّياتٍ على المهنة معيبٌ. أيّ شخص يستطيع أن يدّعي اليوم أنّه ممثل أو كوميديّ، لمجرّد أنّه عارض أزياء أو لديه “واسطة” مثلًا. هذا معيبٌ بحقّ من درس هذه المهنة، وبذل مجهودًا للتألّق فيها، وبحقّ إرث أمثال ريمون جبارة وأنطوان ولطيفة ملتقى وجلال خوري. فهل يحقّ أن نرمي هذا الإرث في سلّة المهملات بهذا الشكل؟

 

تستغلّ “النسوية” الجديدة ظروف المرأة

وتستخدمها كسلعة لتحيا على حساب مشاكلها.

 

كيف توفّق بين العائلة والمهنة خصوصًا في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة؟

لا أخفي عليك هنا أنّ زوجتي كانت سندي الكبير خلال فترة الانهيار الاقتصادي، فقد اتّكلتُ عليها حين خسرتُ أموالي في المصرف، فكانت هي تعيلُ العائلة بعملها “أونلاين”، فيما كنت أنا بلا مدخولٍ جوهريّ يُذكر. مثّلتُ أدوارًا كثيرة في حياتي ولكنّ الدور الوحيد الذي أبقى متمسّكًا به هو دور الأب لِولدَيْن ودور الزوج لنصفي الآخر.

جميلٌ كلامك عن زوجتك. هل تُناصر قضايا المرأة؟

أنا مع حقوقها حتى الموت، ولكنني ضدّ استخدامها لأغراضٍ ربحية، كما يفعل بعض المنظمات. تستغلّ “النسوية” الجديدة ظروف المرأة وتستخدمها كسلعة لتحيا على حساب مشاكلها. المرأة لا تكره الرجل، فهي شريكته في المنزل، وتدير شؤونه. تمكين المرأة يعني احترامها كإنسانة، وليس استخدامها كأداةٍ من خلال شعاراتٍ زائفة.

 

ثمّة من يظن بأنّ استخدام الألفاظ النابية أو الإهانة هو “ترند” مضحك

 

كبف تجد واقع الفنّ حاليًّا في لبنان؟

فقد الفن مكانته بفعل الانحدار الإعلامي، واستسهال الألقاب. صار كل من يملك “لايكات” يسمّي نفسه فنانًا أو إعلاميًا. لكنني أبقى متفائلًا وهناك شركات إنتاج تعطي فرصًا، لكنها تركّز على السوق بدل الجودة. أحيانًا يكون السيناريو سطحيًّا، رغم مشاركة ممثلين موهوبين في العمل. يجب أن نحترم ذكاء المشاهد. أما بالنسبة الى المسرحيات فهناك من يظن بأنّ استخدام الألفاظ النابية أو الإهانة هو “ترند” مضحك. الحريّة المسرحيّة مهمّة، لكنّها يجب ألا تكون على حساب ابنتي الجالسة إلى جانبي في القاعة.

وكيف تنظر إلى دور الأمن العام في هذا السياق؟

لا يُفترض أن يكون الأمن العام رقيبًا أعمى، بل حاميًا للمشاهد وللمسرح نفسه. لستُ مع الرقابة، بل مع وعي الكاتب؛ أي أن يعرف ماذا يكتب، وأين يضع الحدّ الفاصل.

 

ما رأيك بالطاقات الفنيّة اللبنانية؟

أقدّر الطاقات اللبنانية الحقيقيّة كسينتيا كرم التي كان أداؤها على المسرح والتلفزيون حقيقيًا وصادقًا بلا بهرجة. وعلينا إعطاء الفرص لقاماتٍ مثل عمار شلق، مجدي مشموشة، طلال الجردي، ريتا حايك، وغيرهم. تكفينا الإنتاجات البسيطة بنصوصٍ جيدة. لا نحتاج الى الملايين بل الى إخراجٍ صادقٍ ونصّ يحترم الممثل والمُشاهد. وهناك كتّاب محترمون أمثال منى طايع، كلوديا مارشيليان، شكري أنيس فاخوري وغيرهم. لكن لا يجوز أن تصبح أعمالنا مجرّد محتوى يُستورد من الخارج. لدينا هويّة لبنانية يجب الحفاظ عليها.

المسرح أم الشاشة، مَن ينتصر؟

أؤمن بأنّ المسرح اليوم يشهدُ ولادةً جديدة. تراجعت السينما بسبب المنصّات، لكنّ المسرح يزداد قُربًا مِن الناس، ويُعطي مجالًا للمواهب الجديدة.

ما رأيك بالذكاء الاصطناعي؟

تطوّر الذكاء الاصطناعي بسرعةٍ مذهلة، وعلينا أن ندرك مخاطره الأخلاقية والتقنية فقد نصل إلى مرحلةٍ لا نميّز فيها الحقيقي من المزيّف. كما غيّر الحاسوب والموسيقى والتلفاز العالم، يُحدِثُ الذكاء الاصطناعي اليوم ثورةً. كنا نحمّض الصور يدويًا، ثم جاء التصوير الرقمي. اليوم نحن في مرحلةٍ ثالثة. لدينا حنينٌ الى الورقة والصورة المطبوعة، لكن لا يمكننا تجاهل المستقبل. لا أخاف من الذكاء الاصطناعي بحدّ ذاته، بل من الجهل في استخدامه.

رسالتُك الأخيرة الى اللبنانيين؟

الحياة وهمٌ. لكنّها وهم جميل. فلنُحسن التعامل معها. فلنُحب بعضنا، نَحترم بعضنا، ونعمل لأجل إنسانيّة أفضل ولبنان أجمل.

 

 

 

ناقد فنّي ومخرج at  | Website |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى