
في بلدٍ تتقاذفُه الأزمات وتتعثّر فيه الأحلام، يبقى المسرحُ اللبنانيّ مساحةً مُشرّعة للبوح، ومنبرًا يصرخُ بالحقّ في زمن الصمت، ونافذةً تطلّ على الإنسان حين تُغلَق المنافذُ كلّها. ليس المسرحُ في لبنان ترفًا ثقافيًا عابرًا، بل هو فعلُ مقاومة، وتجلٍّ حيّ لِهوية وطنٍ تتآكلُه الويلاتُ والمصائبُ، لكنّه ما زال ينبضُ على خشبةٍ صغيرة تحتضنُ حلمًا كبيرًا يأبى الأفول.
حملَ المسرحُ اللبنانيّ على عاتِقِه، منذ بداياته، مَهمّةً مزدوجة: أن يُسلّي ويُحاكي، يُضحك ويُقلق، وأن يُعيدَ تشكيل الواقعِ بغية استيعابه وتلقّف دروسه بدلًا مِن الهروب منه.
فمَع مارون النقاش، وأنطوان ملتقى، وزياد الرحباني وغيرهم مِن عمالقةِ المسرح اللبناني وأربابه، تَشكّل مسرحٌ لبنانيُّ الطابعِ والهوى، ينهلُ من الوجع الشعبيّ ويُعيد صوغَه بفنٍّ راقٍ، مُحَمّلٍ بالرموز، مغموسٍ بالأسئلة، لا يُهادن ولا يكلّ على امتداد الزمن.
ما يثيرُ إعجابنا اليوم، ليس استمرارُ ذلك الإرث رغم الأهوال والموبقات كلّها فحسب، بل ذلك النبضُ الشابُ الذي يملأ مسارحنا الصغيرة، محوّلًا المساحات المُهمَلة إلى منصّات إبداع. جيلٌ جديد مِن المسرحيين، كتابًا ومخرجين وممثلين، يقتحمُ الخشبةَ صانعًا عروضَه مِن العوز، لا مِن الوفرة. ولا ينتظرُ هؤلاء تصفيقًا من جهاتٍ رسمية، ولا دعمًا مِن مؤسساتٍ شبه غائبة، بل يبنون مسرحَهم بجُهدٍ حثيث على صخرةِ إيمانِهم الصلْب بضرورةِ وجود المسرح لبنةً أساسية في روتينهم وليس كجزءٍ من الكماليات.
في وجه الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المُتسارع، اختار هؤلاء بلا تردّد المسرحَ لاجتراح الحياة، وبرهنوا بالصالات المكتظّة والعروض المُتتالية بأنّ “الجمهور مش عايز كده”، وبأنّ الشباب اللبناني ليس سطحيًا كما يُشاع عنه، وبأنّ اهتـماماته لا تـقتصر حصرًا على ارتياد المـلاهي الليلية ومقاهي النرجيلة. يقدّم شبابُنا المتألّق على مسارح “مونو”، و”ديستريكت 7” و”دوار الشمس”، و”سينما رويال”، وغيرها مِن المسارح اليوم، أعمالًا تتناول قلقهم الوجودي، أو تنتقدُ السلطة، أو تطرحُ أسئلة الهوية والانتماء، وبعضُها يجهدُ لتبديد قهرِ الأيام وسواد الواقع بنكهة الكوميديا الساخرة.
وسط هذا الحراك المسرحي الواعد يتبادرُ سؤالٌ مُلِحُّ الى الأذهان: أين وزارةُ الثقافة مِن هذا المشهد؟ وكيف لِفنٍّ عريقٍ كهذا الاستمرار مِن دون بُنى تحتيةٍ مناسبة، أو ميزانيةٍ مستقلّة، أو خططِ دعمٍ فعليّة؟
جميلةٌ كانت لفتة دولة الرئيس الدكتور نواف سلام باستضافة مسرحية «هاملت الأمير المجنون» في السراي الكبير وتقليده المسرحيّ رفعت طربيه وسام الاستحقاق اللبناني من رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، تقديرًا لِمسيرته الممتدّة على مدى 53 سنة، وهو بعد حيّ يرزق، ولكنّها تبقى مجرّد خطوةٍ فولكلورية إن لم تُكمَّل بإجراءاتٍ ملموسة لإعادة لبنان الى مساره الصحيح، الى دوره الحقيقي المُغَيَّب كصانعٍ للفكر ومولّدٍ للتيارات الثقافية على أنواعها.
ليس غيابُ الدولة عن المسرح مُجرّد إهمال، بل هو تقصيرٌ فجّ في حقّ الذاكرة الجماعية والهويّة الثقافية. يحتاجُ المسرحُ إلى ما هو أبعد مِن التصفيق الاستعراضي، الى دعمٍ ماديّ ومعنويّ، إلى ورش تدريب، ومسارح مجهّزة، ومِنَح إنتاجٍ لا تُستجدى من جهاتٍ أجنبية، بل تنبعُ مِن صُلبِ المؤسسات الثقافية المحليّة. المسرحُ في حاجةٍ ملحّة كذلك إلى تسهيل سُبُل العرض بمختلف المناطق اللبنانية، لا حصره في العاصمة وحدها كأنّه حكرٌ على طبقةٍ دون سواها.
سؤالٌ آخر هنا يوجّه الى وسائل الإعلام اللبنانية. ما هو دورُها في هذا التغييب القسري للمسرح والاكتفاء بمنحه مساحةً هامشيةً خجولة بعد تربيح المسرحيين ألف منّة طبعًا. كيف لوسيلةٍ إعلامية أن تغفل عنوةً عن تسليط الضوء على نبضِ الشارع؟ على مَن يُعيدون صياغة المشهد الثقافي بأعمالهم؟
المطلوب اليوم هو أن تتصالح الشاشةُ مع الخشبة، أن يُفتَح للمسرحِ مجالٌ ثابت في نشرات الأخبار، والتغطيات الثقافيّة والبرامج الحواريّة في ساعات الذروة وليس فقط في”الصبحيات” التلفزيونية، المشكورةِ على مجهودها، ليس لأنّه فنٌّ للنخبة بل لأنّه لغة الناس.
ما زال المسرحُ في لبنان، رغم المصائب كلّها، حيًّا ينبض، يتنفّس من رئة المثقّف المُقاوِم، مِن مثيلات القديرة جوزيان بولس مديرة مسرح “مونو”، والمتألّقة سولانج تراك مديرة “ديستركت 7″، والقيّمين على مسرح “دوّار الشمس” وسائر المسارح التي أخذت على عاتقها مَهمّة حمل الشعلة من دون انتظار دعم المؤسسات الثقافية القائمة.
يقفُ الممثلُ اليوم على الخشبة كأنّه على جبهة، مسلّحًا بالكلمة والضوء، وحُلم التغيير.
وحدها الأوطان التي تُكرّم مسارِحَها، تستحقُّ الحياة. ووحدهُ المسرح الذي يجدُ حضنًا دافئًا وسندًا داعمًا، يبقى قادرًا على إشعال النور، حتى في عزّ العتمة!