مقالات

التوحيد في الدين والأحادية في السلطة

ارتبطت أنماط الإيمان الديني بشكل وثيق بطبيعة الأنظمة السياسية ومفاهيم السلطة والحريات التي أنتجتها الشعوب عبر التاريخ . حضارات ما قبل التوحيد الإلهي وعلى نسق تعددية الآلهة في العبادات، أنتجت أنظمة سياسية واجتماعية تعددية على غرار حضارة الكنعانيين الفينيقيين، الذين جعلوا من مدنهم دولًا مستقلة تحترم خصوصيات بعضها البعض .

قامت هذه المدن الساحلية على مبدأ الانفتاح والتبادل فشمل ذلك التجارة والدين معًا.

مدينة جبيل (بيبلوس)، مثلًا تحوّلت الى منصة للتفاعل مع محيطها شرقًا وغربًا، وتؤكد دراسات علم الآثار أن حكّام جبيل تنبهوا لأهمية تكريم الوافدين إلى مدينتهم ، ليس فقط بحسن الضيافة والإقامة بل ايضًا باحترام معتقداتهم وحقهم في ممارسة طقوسهم، ولذلك بنوا معبدًا مركزيًا بمعابد كثيرة مخصصة لعبادات التجار والزوار على اختلاف معتقداتهم من مصريين ويونانيين، وفرس، ورومان… هذه البنية المعمارية ليست مجرد شكل ديني، بل تعبير عن فلسفة اجتماعية قائمة على التعددية والتسامح.

فالمعبد كان بمثابة بيت مشترك للآلهة، وبهذا كان أيضًا بيتًا مشتركًا للناس. لم يفرض الفينيقيون ديانة واحدة، بل وفروا مساحة مشتركة تُعبّر عن قبول الآخر وهو ما تعذّر في مجتمعات تبنّت ديانات توحيدية صارمة اعتبرت كل واحدة منها ان إيمانها هو الحقيقة المطلقة.

فهل نستنتج أن حضارات تعدد الآلهة انتجت انظمة سياسية واجتماعية تعددية وأكثر تسامحًا من أنظمة ما بعد الأديان التوحيدية؟

السؤال يستحق التفكير لكنه لا يعني أن كل ديانة توحيدية أنتجت بالضرورة ديكتاتورية سياسية، أو أن كل تعددية إلهية أنتجت ديمقراطية تسامحية.

ما نستخلصه من تجربة الفينيقيين هو أن حاجتهم لتأمين المصالح الاقتصادية دفعت بهم إلى المرونة العقائدية فتولّد الانفتاح ونشأت الديمقراطية.

إن تجربة الفينيقيين تدعونا إلى التفكير ولو من باب المصالح، في الحاجة إلى قبول الآخر المختلف عنا دينًا ،لونًا، أو رأيًا، في مجتمعات تمزقها الانقسامات الطائفية والعرقية والثقافية .

سؤال آخر من وحي تاريخ الشعوب هل استولدت الأحاديات الدينية دكتاتوريات سياسية مارست القمع واشعلت الحروب؟

لا ادّعي امتلاك الجواب.

 

مستشار سياسي |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى