Les Secrets de Byblos للمخرج فيليب عرقتنجي أسرارُ جبيل في وثائقيّ باهر

في عمله الوثائقيّ الجديد Les Secrets du Royaume de Byblos، يأخذُ المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي جمهوره في رحلةٍ استثنائية إلى أعماق مدينة جبيل، حيث يلتقي الماضي بالحاضر وتتحوّل الحجارة إلى شهودٍ حيّة على ذاكرة تمتدّ لآلاف السنين وهو مجهودٌ قيّم لم يمرّ من دون جلبة خصوصًا أنّ الفيلم انتزع جائزةَ لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الرابعة والعشرين لمهرجان السينما الأثرية (FICAB) بمدينة بيداسوا الإسبانية.
شارك عرقتنجي جوناس روساليس في الكتابة، وتولّت شركتا GEDEON Programmes وARTE France الإنتاج بدعمٍ من وزارة الثقافة اللبنانية وتعاونٍ مع متحف اللوفر، كذلك ساهمت قناة Histoire TV في إنتاجه بالتعاون مع مؤسساتٍ دولية مرموقة.
يروي عرقتنجي أن شرارة الفيلم الأولى كانت اكتشافًا فريدًا في باطن مدينة بيبلوس: مئات الأمتار من مدافن احتوت على رفاتٍ بشرية يرقى تاريخُها إلى نحو 3800 سنة. ما بدا لوهلةٍ اكتشافًا عاديًا أبان عن فرادةٍ نادرة؛ إذ لم تطأ هذه المدافن أقدامُ بشرٍ منذ قرونٍ طويلة، ولم يجرؤ أحد على العبث بها على امتداد 8900 سنة، أي منذ بدايات أقدم مدينةٍ مأهولة في العالم.
كانت بعثةُ التنقيب برئاسة مديرة الموقع في المديرية العامة للآثار بوزارة الثقافة اللبنانية تانيا زافين، وعالم الآثار من متحف اللوفر الفرنسي جوليان شانتو.
لم يكن دخول الكاميرا للمرّة الأولى مع فريق الأثريين إلى هذا الفضاء المُغلق منذ آلاف السنين مجرّد توثيقٍ علميّ بالنسبة إلى عرقتنجي، الذي يصفُ الأمر بمغامرةٍ إنسانيّة وفنيّة في آن. “أن تكون أول كاميرا تدخل إلى مكانٍ مغلق منذ 3800 سنة، هو أمرٌ رائعٌ ومثيرٌ للغاية”، يعلّق المخرج بحماسةٍ، مشدّدًا على أنّ الفيلم ليس عن اكتشاف المدافن فحسب، بل هو اختزالٌ لقصّة جبيل نفسها التي ازدهرت في العصر البرونزي، فصدّرت خشب الأرز إلى مصر لاستخدامه في بناء الأهرامات، وكانت مركزًا تجاريًا مزدهرًا أشبه بعاصمةٍ اقتصادية للمنطقة. ما يريده عرقتنجي من العمل الممتدّ على تسعين دقيقة مُمتعة يتجاوزُ حدود السرد الأثري. فأهمية الفيلم بالنسبة إليه تتمثّل في كونه رسالةً إلى اللبنانيين قبل السيّاح. “لدينا تراثٌ عريق وتاريخٌ فريدٌ من نوعه. علينا تسليط الضوء على هذا الغنى الثقافي فاللبنانيون يجهلون قيمة ما لديهم”، يؤكّد المخرج مشدّدًا على أنّ هذا التراث قادرٌ على إعادة وضع لبنان في قلب الخريطة السياحية والثقافية العالمية في حال أجاد اللبنانيون الاستفادة منه.
كان الفيلمُ على تماسٍ وثيقٍ بمسيرة المديريّة العامة للآثار وتحديدًا العالمة تانيا زافين، التي تعملُ بجهدٍ دؤوب منذ سنواتٍ طويلة في قلعة جبيل تحديدًا. وظهورها في الوثائقيّ لم يكن تمثيلًا بقدر ما كان نقلًا لروتينها اليومي، فتحوّل المشاهد بكاميرا عرقتنجي الى شاهد عيانٍ على جهدها ورسالة المديرية العامة للآثار المقدّسة في حفظ المواقع الأثريّة اللبنانية وصون ذاكرة التراث.
تروي زافين أنّ التجربة كانت استثنائية واصفةً إيّاها بالـ”مغامرة الكبرى”، فتلك المرّة الأولى التي ترافقها فيها عدساتُ التصوير. لم يكن الأمرُ خاليًا من المغامرات الخطرة وتذكر كمثالٍ تحديدًا لحظةَ نزولها إلى المدافن من حفرةٍ ضيّقة كانت تجهل الى اين ستفضي. “لم أفكّر في خطورة الأمر. تملّكتني الحماسة فنزلتُ من دون أدنى تفكير. وعندما شاهد أهلي الفيلم صاحوا مستنكرين: ألم تفكّري في ما قد يحصل؟ هل أنتِ مجنونة؟”، تشرح زافين. لكنّ العالمة لا تندمُ على فعلها المتهوّر، فتلك برأيها مغامرةٌ تستحق العناء، كونها تكشفُ قيمة تراث لبنان المتجذّر في باطن الأرض ما يُسهم في تقدير أهميّة هذا البلد الصغير بمساحته والكبير بآثاره وثقافته. ليس الفيلمُ إذًا برأيها مجرّد وثيقةٍ بصريّة، بل أهميّته الجوهريّة في دوره التوعويّ: “علينا التعرّف على هويّتنا وعلى تاريخ أسلافنا. لم نأتِ من عدم. تاريخُنا عريقٌ وعلينا إكمال المسيرة والاحتفاء بهويّتنا الحضارية، فالحاضرُ لا يكتملُ إلا بفهم الماضي، وإذا لم يكن عندنا ماضٍ، لن يكون لدينا مستقبل”، تشدّدُ زافين بابتسامةٍ عريضة.