
في لحظةٍ تكلّلت بالرمزية والانتصار الفني والسياسي، حصد المخرج الإيراني جعفر بـنـاهــي جـائـزة السـعـفـة الـذهـبية في مـهـرجان “كـان” السـيـنمائي، في تتويجٍ ليس لمسيرته الإبداعية فحسب، بل أيضًا لصموده في وجه القمع والرقابة.
هذا الفوز، بما يحمله من دلالاتٍ، يعيد تسليط الضوء على أحد أكثر الأصوات السينمائية جرأة وصدقًا في الشرق الأوسط، وربما في العالم.
ولد جعفر بناهي عام 1960 بمدينة ميانة بإيران، ودرس السينما في جامعة طهران، ثم عمل مساعدًا للمخرج الكبير عباس كيارستمي، قبل أن يلفت الأنظار بفيلمه الأول “الكرة البيضاء” (1995)، الفائز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان “كان”، والذي شكّل انطلاقته نحو العالمية. ومنذ ذلك الحين، لم يتراجع بناهي عن مواقـفه المـبدئية، وظـلّ مُنحازًا للناس العـاديـيـن، لـهـمـومـهم، حـكـاياتـهـم، وأحلامهم المُجهَضة تحت مقصلة السلطة والتقاليد.
سينما الحقيقة والصراع
ليست أفلام بناهي مجرّد أعمال فنية، بل هي بيانات سينمائية تُكتب بالصورة، وتُعلن التمرد دون ضجيج.
في أفلامه مثل “الدائرة” (2000)، و”خارج اللعبة” (2006)، و”هذا ليس فيلمًا” (2011)، و”تاكسي طهران” (2015)، يصوّر حياة الإيرانيين اليوميّة بأسلوبٍ يمزج الواقعية بالتجريب، ويعتمد الكاميرا كشاهدٍ ومشـارك، لا مـُجرّد راصد. تقترب مواضيعه غالبًا مِن قضايا المرأة، القمع، الفقر، والحرمان مِن الحرية، مِن دون أن يقع في المباشرة أو الخطابة. لكنّ هذا النهج الصادق كان ثمنه باهظًا. فقد تعرّض بناهي لحظرٍ رسمي من السلطات الإيرانية منذ عام 2010، وحُكم عليه بمنع صناعة الأفلام أو السفر لمدّة 20 عامًا، إضافة إلى الإقامة الجبرية.
ورغم كل ذلك، لم يتوقّف يومًا عن العمل، بل واصل إخراج الأفلام بطرقٍ غير تقليدية، مستخدمًا كاميراتٍ صغيرة، أو حتى هاتفًا محمولًا، كما حدث في “هذا ليس فيلمًا”، الذي تمّ تهريبه من إيران داخل فلاش USB مخبّأ في قالب كعك!
السعفة الذهبية 2025
فاز بناهي بالسعفة الذهبية في هذا العام عن فيلمه “It Was Just an Accident”، وهو من تأليفه وإخراجه وأوّل عمل له منذ الإفراج عنه في عام 2023. صُوّر الفيلم سرًّا لعدم حصوله على تصريحٍ رسمي مِن السلطات الإيرانية، ويُعتبر إنتاجًا مشتركًا بين إيران وفرنسا ولوكسمبورغ. لا يُعدّ الفيلم مجرّد عملٍ سينمائي؛ بل هو شهادةٌ بصرية دامغة على قدرة الفن على النبش في جراح الذاكرة الجماعية ومساءلة التاريخ الحيّ، بعدسة مخرجٍ ما زال يحترف تحدّّي الظلم السياسي.
تدور أحداث الفيلم حول مجموعةٍ من السجناء السياسيين السابقين يتعرّفون على أحد معذبّيهم السابقين، فيعمدون إلى اختطافه لمواجهة ماضيهم المؤلم. يستكشف الفيلم مواضيع الهوية والعدالة والصدمة النفسية، مُسلّطًا الضوء على تأثير القمع السياسي على الأفراد.
نال الفيلم إشادةً واسعة من النقاد، ووُصف بأنّه “عملٌ إنسانيّ وسياسيّ عميق”. وأعربت رئيسة لجنة التحكيم، الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، عن إعجابها به مشيدةً بقدرته على الجمع بين السرد السينمائيّ القوي والرسالة السياسية المؤثّرة.
أما أبرز نقاط قوّة الفيلم فواقعيّته المشحونة وقدرته على مسرحةٍ صامتة للألم، خصوصًا أنّ بناهي حرّيفٌ في التقاط تفاصيل صغيرة تتحوّل إلى دلالاتٍ ضخمة بأسلوبه المعتاد على تصوير الحياة اليومية من دون بهرجة، بحيث يبدو كلّ مشهد مألوفًا وأقرب إلى تجربةٍ داخلية لا مجرّد سردٍ خارجي، ناهيك عن جرأة طرح تيمةً نادرة في السينما الإيرانية وهي مساءلة السلطة عبر مواجهةٍ رمزية مع أدواتها القمعية من دون الوقوع في فخّ التبسيط أو الشعاراتية.
وعلى الرغم من محدوديّة الموارد بسبب التصوير السرّي لم تتأثّر جودة الإخراج بل بالعكس رصدت الكاميرا المتواضعة الشخصيات في فضاءاتٍ مغلقة أو أماكن نائية، تُحاكي عزلتها النفسية، وتُضفي بُعدًا وجوديًّا على الحوار الصامت بينها. وتجلّت مشاهد الضوء الخافت، وحالات الصمت الطويل، كأدواتٍ سردية مدهشة تُسهِمُ في شحن المشاهد عاطفيًّا مِن دون حاجةٍ إلى موسيقى أو مُبالغاتٍ درامية.
ليس “It Was Just an Accident” انتصارًا لبناهي فحسب، بل هو فوزٌ للسينما ذاتها التي ترفض التحوّل إلى مرآةٍ صامتة. هو فيلم عن الذاكرة كجريمةٍ مؤجّلة، وعن الكاميرا كأداة مساءلة. فبين اللقطة واللقطة، يسألُ المُشاهِد نفسَه: من الضحية ومن الجلّاد؟
بناهي هو تجسيدٌ حيّ لفكرة أن “السينما قد تكون سلاحًا”، فحين تُخنَقُ الحريّة، وتُقمَعُ الكلمة، تظلّ الصورة أملًا أخيرًا للبشر في أن يُشاهَدوا ويُسمَعوا. انتزع الفيلم السعفة الذهبية لأنّه تجاوز فكرة السينما كمتعةٍ بصريّة، وقدّمها كوسيلةٍ للمُساءلة، والشهادة، والمقاومة. بمعنى آخر كرّم المهرجان مُخرِجًا يصنعُ أفلامًا رغم المنع، ويُخاطب العالم من خلف الجدران.
فاز جعفر بناهي بالسعفة الذهبية، لكنّ الأهم أنه فاز بثقة جمهورٍ عالميّ يرى فيه صوتًا حرًّا لا يعرف الاستسلام، وفنانًا يؤمن بأنّ الصورة قد تصرخُ بأعلى صوت وإن حُظر عليها الحديث.