سينما

FOLLOWER لمارسيل غصن تـفـاهة الـتواصل الاجتماعي على مشرح السينمائيّ المُبدع

هي لين، مدوّنةٌ لامعةٌ ذائعةُ الصيت بآلافِ المُتابعين؛ السعيدةُ بنجوميّتها الالكترونية التي تزيد مِن رصيد معجبيها على مرّ الزمن بما يلبّي غرورها المتعطّش الى مزيدٍ مِن الحشود المولَهة. أما هو فمتابعٌ يلحق بِها بهَوَسٍ في أزقّة الكسليك طالبًا منها مجاراته بالاجابة عن أسئلته كونه من قافلة جمهورها المُعجب بما تنشره على وسائل التواصل.

تستجيبُ لطلبه؛ لأنها لا تُحبّ طبعًا أن تخذل متابعيها. يلاحقها كظلّها من زقاقٍ الى آخر، وينهال عليها بِوابلٍ من الأسئلة. تنصاعُ له في البداية ككلّ مدوّن إلكتروني يشعر بواجب مُجاراة “الفانزات”… لكنّه لا يستكين أو يُهادن… تتوالدُ أسئلته كأمواجٍ مُتلاحقة لا تتركُ لها مجالًا لالتقاطِ النفس… تملّ مِن إلحاحه اللجوج… مِن تتالي أسئلته المُزعجة التي لا لزوم لها… تتغيّر نبرتُه المُسالمة بين فينةٍ وأخرى؛ فتنتقلُ بسرعةٍ خاطفةٍ من اللطف الى الاستفزاز البغيض، فيتبدّل المناخ مِن ودودٍ الى عدوانيّ. تطلبُ منه باستياءٍ أن يدعها وشأنها. يأبى ذلك. يطاردها بِعباراتٍ شرسة من نوع “بكرهك… بكره كيف بتخبرينا عن كلّ شي بحياتك… عن تفاصيلك الصغيرة… بعرف كلّ شي عنّك… عن غرفتِك… حمّامِك… مطبخِك… أصحابك… كيف بتشربي قهوتك… شو بتحبّي تاكلي وتشربي”…

مشاهدُ طويلة تُصوَّر بلا انقطاع بكاميرا آيفون، للمتحرّش وفريسته وقد علِقَتْ في دوّامة الازقة وبين مخالِب المُتابع المَهووس.

إنّه فيلم “متابع” Follower للسينمائي والمسرحي مارسيل غصن؛ وقد صُوّر في العام ٢٠١٩؛ وهو من بطولة المتألّقة ماريلين نعمان. شارك الفيلم في الـ”Global Film Festival Awards” بلوس أنجلوس بتشرين الأوّل من العام نفسه محقّقًا نجاحًا باهرًا حصد له جائزتَيْ أفضل فيلم وأفضل مخرج. وفي كانون الثاني من العام 2020، عُرض الفيلم في العاصمة البريطانية لندن، وتُوّجَت بطلتُه، ماريلين نعمان، بجائزة أفضل مُمثلة. ومنذ ذلك الوقت يتواصل عرضه في فعاليات مختلفة، مُسلطًا الضوء على الجرائم الإلكترونية التي تُهدّد الشباب، مِن تنمُّرٍ وتحريض، والتي قد تؤدّي إلى عواقب وخيمة تصل حدّ الموت أحيانًا.

والفيلمُ المعنيّ تجربةٌ فريدةٌ مِن نوعها؛ اولًا لتصويره كاملًا باستخدام هاتف “آيفون” وحده، فيكون بذلك أوّل فيلمٍ لبنانيّ طويل يُنجز بهذه التقنية، بخمسة أيام فقط وبعد ثلاثة أشهر من التدريب؛ وثانيًا لواقعيّته المفرطة بحيث تقتنع عند مشاهدتك إيّاه بوجودك في صلب مشاكل وسائل التواصل وتعقيدات الإدمان عليها. يُبدِع غصن في نقلِك كمشاهدٍ الى ملعبِهِ. يتفنّن ببراعةٍ مُنقطعة النظير في إدخالك بسلاسةٍ الى عالم المُتحرّش وضحيّته بحيث تختلطُ عليك الأمور فتنسى للحظاتٍ أنّك على مقاعد مسرح “مونو”، لِتشعُرَ وكأنّك هناك ضمن مشهدِ ملاحقةِ المُجرِم لضحيّته؛ فتنالُ منك المشاهدُ بصدقِها الشديد كلّ مأخذٍ، وتتسارعُ أنفاسُك أو تتباطأ على وتيرة المُتَحَرّش وضحيّته، ويبلغُ منك الغضب أشدّه فترغبُ في مغادرة الصالة امتعاضًا وحنقًا وهو أمرٌ سبقَكَ إليه بعضُ الحضورِ أساسًا.

ولكنّك على عكس مَن غادر الصالة تقبعُ مُتَسَمِّرًا في مكانك مترقّبًا ما ستؤول إليه الأمور لأنّك مِن هواة كشف الغموض لا الهروب منه؛ ولأنّك تعرفُ أنّ لِغصن- الذي نال إعجابك في مسرحيّته أرق Insomnia قبل سنتيْن على خشبة “ديستريكت ٧”- باعٌ طويل مِن الأعمال المميّزة؛ المُعقّدة التركيب والعميقة المغزى؛ التي تحملُ في طيّاتها رسائل اجتماعية هادفة.

لا يخيبُ ظنّك. كان الاستفزازُ الشديد والانزعاج الى حدّ الغثيان جزءًا مِن المُعادلة التي صاغها المخرج بإحكام؛ تمامًا كما هي حال ضياعك التامّ المقصود في التفريق بين ما هو حقيقيّ وما هو مُفتعل في بعض المشاهد. ألسنا نعاني اليوم هذه المشكلة أساسًا مع ثورة وسائل التواصل ودور الذكاء الاصطناعي في تشويه الحدود بين الحقيقة والخيال، فبات مِن الصعب التمييز بين ما هو واقعٌ وما هو مُزيّف؟ أليس في ذلك تبصرٌ واعٍ يُحسَبُ للمخرج الفطن الذي تنبّأ للآفة قبل ستّ سنوات مِن وقوعها؟ وهذه المنصّات الالكترونية مسرحُ الانفتاح والانفلات المُفرِط ونشر تفاصيل الحياة اليومية بإلغاءٍ تامّ للخصوصية؛ بلا ورعٍ أو خجل؛ وهذه السباقات المحمومة السطحية الى جمع “اللايكات” وزيادة جحافل “المتابعين” حدّ التفاهة البلهاء، أليست مضيعةً للوقت يمارسها شبابنا بفخرٍ يوميًا ومرآةً صادقة لآفةٍ تنهشُ مجتمعاتنا وتُعَرّضها لألف داءٍ وعلّة أقلُّها التنمّر والتحرّش؟

يأمل غصن بتقنيته المُعقدّة حثّك كمُشاهدٍ على التعمُّق في الاشكاليات المطروحة؛ ليس خلال العرض وحده؛ بل ما بعده بشكلٍ أساسيّ؛ ولعلّك لهذا السبب بالذات تجده؛ عقب كُلّ عملٍ؛ يُخصّص جلسة حوارٍ مع الحضور، فاتحًا باب مناقشة العِلَل على مصراعيه؛ مواجهًا معجبيه ومنتقديه على سواء بشجاعةٍ باسلة ودبلوماسيةٍ فائقة؛ مُبرهِنًا أنّه فنانٌ مِن الطراز الرفيع يعرفُ أنّ دوره الحقيقي كسينمائيّ ليس في عرض الجانب المُشرِق مِن حياتِك فحسب؛ بل في نكء جراحِك واستفزازك فكريًا وعاطفيًا بتسليط الضوء على الاشكاليات ثم تشريحها بتفصيلٍ مُملّ تحت مجهره العلميّ وتلك ميزتُه الفضلى وموطن إبداعه.

Julie Mourad
Website |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى