مقالات

شعراء وأمّهات (١) – شربل شربل

تختلف مكانة الأمّ في المجتمعات باختلاف ثقافاتها. ولا شكّ في أنّ المجتمعات الذكورريّة، عمومًا، تقلّل من شأنها، لأنّها تقدّم الذكر على الأنثى، سواء كانت أمًّا أم لا.
والباحث عن صورة الأمّ في الشعر التراثيّ يكاد لا يقع سوى على إشارات لا يُعتدّ بها، في الشعر الجاهليّ، أو الإسلاميّ؛ وأشهرها قول الحطيئة، المخضرم، في هجاء أمّه:
تنحّي فاجلسي منّا بعيدًا
أراح الله منكِ العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء منّي
ولكن لا إخالك تعقلينا
أغربالًا إذا استودعت سرًّا
وكانونًا على المتحدّثينا
جزاك الله شرًّا من عجوز
ولقّاك العقوق من الخدينا
حياتك ما علمت حياةُ سوء
وموتك قد يسرّ الصالحينا
أمّا في الشعر العبّاسيّ، فلعلّ أبرز من ذكر أمّه في شعره هو أبو فراس الحمدانيّ. وقصّته يعرفها أبناء جيلنا الذين درسوا شيئًا من شعره.
وعلى سبيل التذكير، فأبو فراس هو ابن عمّ سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانيّة، وعاصمتها حلب؛ وقد عاش في القرن العاشر الميلاديّ (٩٣٢- ٩٦٨). وكان فارسًا مجلّيًا، وقد وقع في الأسر عند الروم، وطال أسرُه، ولم يسرع سيف الدولة لافتدائه ومن معه، خلافًا لوعوده، وردّ أمّه التي جاءته مطالبة بالسعي للإفراج عنه خائبةً؛ فألهب الأسر والشوق لأمّه، وحنينه إلى الحرّيّة…شاعريَّته، فأظهر عمق شعوره بألم أمّه المريضة الخائبة الوحيدة في منبج، ووحيدها يعاني في أيدي الأعداء. ومن أبرز ما تفتّقت عنه عبقريّته قصيدته التي يقول فيها:
يا حسرةً ما أكاد أحملها
آخرها مزعجٌ وأوّلُها
التي أجاد فيها بوصف الأمّ التي تسحقها عذابات ابنها، قائلًا:
عليلةٌ بالشآم مفردة
بات بأيدي العدا معلِّلُها
تُمسك أحشاءها على حُرقٍ
تطفئها، والهمومُ تشعلها
إذا اطمأنّت، وأين؟ أو هدأت
عنّت لها ذِكرةٌ تقلقلها
تسأل عنّا الرُكبان جاهدةً
بأدمعٍ ما تكاد تمهلها:
يا من رأى لي بحصن خرشنةٍ
أُسد شرىً في القيود أرجلها
يا من رأى لي القيود موثقةً
على حبيب الفؤاد أثقلها
يا من رأى لي الدروب شامخةً
دون لقاء الحبيب أطولها…
وصولًا إلى معاتبة سيف الدولة:
بأيّ عذرٍ رددت والهةً
عليك دون الورى معوّلها
جاءتك تمتاح ردّ واحدها
ينتظر الناس كيف تقفلها؟
وقد عُرف شاعرنا بتجلّده، وخصوصا أمام عيون جنوده الأسرى، ولكنّ وجدانيّته كانت تطغى إذا خلا بنفسه في ليالي الأسر فيرسل دموعه السخينة النابعة من قلبه، في غفلة من جنوده، ويطلب من سيف الدولة الإسراع في افتدائه، معلّلًا ذلك بحاجة أمّه إليه:
لولا العجوز بمنبج
ما خفت أسباب المنيّةْ
ولكان لي عمّا أريد
من الفدا نفس أبيّةْ
لكن أردت مرادها
ولو انجذبت إلى الدنيّةْ
ويخاطب أمّه في محاولة للتخفيف عنها، قائلًا:
يا أمّتا لا تحزني
وثقي بفضل الله فيّه
يا أمّتا لا تيأسي
لله ألطافٌ خفيّةْ
أوصيك بالصبر الجميل
فإنّه خير الوصيّةْ
هما صورتان مختلفتان كلّ الاختلاف، وموقفان من الأمّ لا يلتقيان مطلقًا، والفارق بينهما حوالى ثلاثة قرون.
وللبحث صلة…
في ٢٢ آذار ٢٠٢٥
شربل شربل
( يتبع)
+ posts

كاتب وأديب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى