
تعرفُها منذ كانت تدير ملتقىً ذاع صيته باسم “Alia’s books” في الجميزة، جمعت فيه محبّي المطالعة والموسيقى بطريقةٍ مبتكرة، فكان الناس يقصدون ركنها لقضاء بعض الوقت مع الحبر والورق او التمتّع بفرقٍ موسيقية ناشئة تعزف للجمهور أجمل ما في جعبتها. ثم فقدتَ الاتصال بها بعدما قطعت الكورونا أواصر التواصل بينك وبين أترابك وفتك انفجار 4 آب الأليم بالمنطقة التي تحوّلت الى بؤرةٍ مقفرة. واذ بكَ تلتقي بها مجددًا مصادفةً، وبعد وقتٍ طويل، بعدما استرعى انتباهك مشروعٌ فريد استوطن بنايةً قديمة في أحد زواريب مار مخايل الضيّقة وبابٌ من حديد ألصق عليه شعار: “أفكار زبالة”، وذُيّل بترحيبٍ يقول: أهلًا بكم عند “الستّ نايلة”.
أختارُ الفنانين ممّن يحبون تحسين أحيائهم
أخبرينا عن مشروع “الستّ نايلة”.
هو مبادرةٌ مبتكرة تضمّ أكثر من أربعين فناناً وحرفياً يعرضون أعمالاً صنعت بمواد مهملة أعيد تدويرها للاستفادة منها. غالبية ما هو معروض عندي هو إما مِن قطعٍ مُرممة أو مواد مكسورة أو مستعملة، مع التركيز على إعادة استخدام الأقمشة المعاد تدويرها كذلك فجميع الفنانين المشاركين يتميّزون بحرفيتهم وإبداعاتهم في تحويل المواد التي أكل الدهر عليها وشرب إلى قطعٍ فنيةٍ جديدة تحكي قصصاً مؤثرة. وغالبًا ما يكون الهدف دعم المجتمع بمشاريع مبتكرة. فاستوديو “ستيلا” مثلاً يساعد فلسطينيي مخيّمَيْ صيدا وشاتيلا، بينما يمكّن مشروع “إيكو” نساء بعقلين عبر تعليمهنّ فن الخياطة وتنظيم ورش تدريبية لهنّ هدفها كسب القوت من هذه المهنة.
لماذا اخترتِ هذه البناية بالذات مقرًا؟
لأنه بيت تاريخي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي ويتميّز بطابعه المعماري الأصيل. للمنزل قصته كذلك اذ كان ملجأً لثلاث عائلات تقاسمت غرفه ومساحاته وقد رمّمته بعنايةٍ ليتحوّل الى مساحةٍ فنيةٍ راقية.
أما منطقة مار مخايل فأنا أعشق التعددية فيها وروح التكاتف بين أصحاب المحلات حتى أن بعضها يساعدنا مثلًا في نشر ملصقاتنا.
وتشهد هذه المنطقة نهضةً كبيرة فقد تضاعف عدد المتاجر والمقاهي والمطاعم فيها بشكلٍ جنوني وباتت مقصدًا للجميع وخصوصًا الشباب.
وكيف تختارين الفنانين المشاركين في مشروعك؟
أختارهم بعناية انطلاقًا من موهبتهم وشغفهم الفني. أشعر بارتباطٍ حقيقي مع من أختارهم فأنا مؤمنة بعملهم أولًا، ولا أعتمد على أيّة منحٍ أو مساعدات بل اتّكل على ذاتي ومجهودي الشخصيّ. أختار الفنانين ممّن يحبون تحسين أحيائهم وممّن يتقصّدون ترك أثرٍ طيّب على محيطهم. ومنذ ثلاث سنوات، عملتُ على مشروعٍ مشترك مع اثنيْن من فناني الغرافيتي أسّسا ما يعرف بـThe Wall Beirut، يزيّن من خلاله الفنانون جدران المدينة بلوحاتٍ غرافيتية جديدة تتغيّر كلّ بضعة أشهر، وقد عرض حتى الآن أكثر من 12 فنانًا أعمالهم عليها. أعجبتني الفكرة وأردتُ بدوري المضيّ بمشاريع تحسّن من ظروف الاحياء والمجتمع فهل أنبل من ذلك؟.
وهكذا ضمّنت فكرتي مشاريع لدعم الحرف اليدوية كالسكاكين التي يصنعها إيلي بوجوك مثلاً في مشغله بعين سعادة مقدّماً قطعًا نادرة هي مزيجٌ من التراث الشرقي والحداثة، بالاضافة الى غيرها من مشاريع الحرف اليدوية المصنوعة من مواد مختلفة.
كأنّ لمشاريع “القماش” حصة الاسد عندك؟
فعلًا. فأنا أعمل مع مؤسسة “وردة” على برنامج يحمل عنوان Fabric Exchange.يقوم المشروع على فكرة جمع فائض الأقمشة من ورش العمل لإعادة توزيعها. فمؤسسة “وردة” مثلًا تنتج كمًا هائلًا من القصاصات شهريًا تُرمى في سلّة المهملات. نوزّع قصاصات الأقمشة هذه على ورش الخياطة والمصانع على امتداد الاراضي اللبنانية. منذ كانون الثاني 2024 وزّعنا أكثر من 8 أطنان من الأقمشة واستفاد أكثر من 119 مشروعًا من الأمر.
واستُخدمت الأقمشة الموزّعة في صناعة الملابس والحقائب والأعمال الفنية المذهلة. ومن أبرز المشاركين استوديو “ساكي كيمونو” الذي يدمج الأساليب التقليدية بالتصاميم الحديثة، بالإضافة إلى علاماتٍ تجارية محلية أخرى مثل “سايفرز”، “شابو”، و”كوكوباغ”.
ولكنّ مشروعي لا يقتصر على الأقمشة فحسب، فمن أبرز معروضاتي ركنٌ خاص لأعمالٍ تتمحور حول الفنانة فيروز، أو صباح، أو زياد، او وديع الصافي وغيرهم، بشكلٍ يعكس شغف الشباب بالفنّ والموسيقى وبتراثهم الثقافي بطريقةٍ مبتكرة، بالإضافة إلى ركنٍ مخصص للاعمال التصويرية وآخر للتشكيل أو للاعمال المصنوعة من نحاس، أو للأعمال الفنية التي رُكّبت من عناصر غريبة تثير الدهشة. ومعرضي في تغييرٍ مستمرّ فهو يستقبل الأعمال الجديدة بوتيرةٍ متسارعة، ولكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو استخدام المهملات في صناعتها.
من هنا استلهمتِ شعارك “أفكار زبالة” إذًا؟
نعم. لأنّ مشروعي قائم على فكرة إعادة تدوير المهملات، من أقمشةٍ وكرتونٍ وبلاستيك وتحويلها إلى قطعٍ فنيّة ملفتة للنظر. يحتوي هذا المكان على أكثر من خمسين لوحة مُعلّقة، بعضها ينتمي إلى مجموعة “استوديو أفكار زبالة”، وبعض الفنانين الجدد مثل “دومينا” يُنتج تصاميم معاصرة على غرار “هوديز بلا حدود”…
بوسعنا اعادة استخدام أيّ مادة في قالبٍ جديد، حتى التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو بلا قيمة تجد سوقاً لها كأن نحوّل علبة “البون جوس” مثلاً ببساطة الى محفظة. ونلاحظ اليوم إقبالاً كبيراً على هذه المنتجات، فالناس باتوا يقدّرون قيمتها ويحبّون اقتناءها.
ما هو المطلوب من الفنان للانضمام الى مشروعك؟
نرحب بالجميع وندعوهم للاستفادة من مواردنا فنحن نؤمن بأنّ الفنّ المستدام ليس وسيلةً لإعادة استخدام المادة بل هو كذلك رسالة تجمع بين إبداع الفنان ونيّته في تحسين مجتمعه. فنحن نسعى بدرجة اولى الى بناء مجتمعٍ يحترم البيئة ويعزّز الفنون على أنواعها.
هل تلمسين أثرًا ايجابيًا لهذه المشاريع؟
لعلّ الأثر الذي تحدثه في المجتمع هو أجمل ما فيها إذ تدخل المواد المعاد تدويرها في أنشطةٍ تعليمية خاصةً في المدارس التي بدأت باستخدامها لدعم الفنون. كذلك تساعد مشاريع الخياطة مثلاً على تمكين نساء بعقلين. ولعلّ أهم أثر لمشاريعي هو دعمها للفنانين الناشئين ولأصحاب الحرف. وقد بدأنا في العام الحالي التركيز على التسويق وبات الناس يقصدوننا لشراء الهدايا وذاع صيت “الست نايلة” على وسائل التواصل خصوصًا الإنستغرام.
هل تفكّرين بمغادرة لبنان خصوصًا انّك تحملين جواز سفر أجنبيًا؟
أبدًا. فبرغم الصعوبات المختلفة التي مررنا بها من حروبٍ وانفجارات وانهياراتٍ اقتصادية لم أفكّر أبداً في مغادرة لبنان فهو وطني وذكرياتي. هو العائلة، والدفء الذي لا يمكنني العثور عليه في أوروبا، ويستحيل أن اتخلّى عنه. أدركتُ بعد انفجار المرفأ أنّني لن أترك لبنان مهما حصل. قضيتُ وقتاً خارج لبنان، لكنني سرعان ما عدتُ إليه لأنني أشعر هنا بالانتماء الحقيقي، شأني وشأن والدتي التي كانت أجنبية ولكنها أحبّت لبنان واختارت السكن فيه، وتشبّعت من ثقافته وتعلّمت صنع أطباقه التقليدية. لبنان بلدٌ صعب، لكنّه فائق الجاذبية بسحره وحتى الأجانب الذين يزورونه يجدون صعوبةً فعلية في الابتعاد عنه ونسيانه.