“هردبشت”… أصلُها آرامي

في أزقّة اللغة ودهاليزها المنسيّة، تمشي كلماتٌ بثوبٍ من الغبار، تحمل في طياتها قصصًا لم تُروَ بعد. واحدة من هذه الكلمات، “هَردَبَشت”، تتأرجح بين اللهجات واللغات، كأنها كائنٌ عجائبيّ نشأ بين الحواري الشعبية والرقيمات الآرامية المحفورة منذ قرون.
في اللسان اللبناني، نقولها بلا تفكير: “هَردَبَشت”—للدلالة على المهانة، على البهدلة، على من لا يُعنى بمظهره ولا يأبه بهندامه. لكنها ليست مجرد تعبير عامّي؛ إنها مشهدٌ متكامل: سروالٌ مهترئ، حذاءٌ مشقوق، نَفَسٌ ينزف من ضيق الحال.
لكن الكلمة تخبّئ أكثر ممّا تُظهر. أصلها آرامي، وقد انتقلت عبر أزمنةٍ وثقافات، تسللت إلى التركية باسم Bahdala، وتحوّلت في العامية إلى رسمٍ يحمل بين حروفه وجع البسطاء وسخرية الأناقة.
لو عدنا للفعل “هردب”، أو نظيره المقلوب “هربد”، لوجدنا بأنه يعني: “طقّ حنك”، أي انفجار التوتر من داخلك، ثرثرة لم يعد في الإمكان كبحها. وهناك تقاطع لغوي مدهش بين “الهرج” و”الدراسة”، فكلمة ܗܶܪܓܳܐ السريانية تعني التأمل، لكنها أيضًا تصف الضوضاء. كيف يكون التفكير ضجيجًا؟ وكيف تحيا اللغة بهذه المفارقة الساحرة؟
نسمع التعبير الشعبي “هرتك تيابو”، فنرسم صورة رجلٍ يرتدي الأسمال، مغلولًا بالفقر، يلفّ جسده بما لا يستر، كما تقول الآرامية: ܠܒ̥ܶܫ ܥܽܘܕ̥ܽܘܪ̈ܶܐ—لبس أطمارًا، حتى كأنّ الستر نفسه يهوي من جسده.
وفي الأثر اللغوي الثمين الذي تركه اللغوي الآرامي مباركه، تنجلي المعاني بدقّة: “حيُرتا بيشتا”، أي “منظر قبيح”. الكلمة من قسمين، أحدهما يعبّر عن القبح البصري، والآخر عن الرداءة الجوهرية، في مزيجٍ يجعل “هردَبَشت” أشبه بشخصية درامية في رواية منسية.
ورغم هذا التاريخ الزاخر، هناك من يسعون لردّ الكلمة إلى التركية أو الفارسية، إلى رجل نسي أن يشدّ زنّاره أو انحنى ظهره تعبًا. لكن، هل من جدوى في نبش معاني قد انطوت، في محاكمة ألفاظٍ تاهت عبر الزمن، لتُستعمل من دون أن يُسأل عن أصلها؟
ليست “هردَبَشت” مجرد وصمة أو وصف. إنها حكاية الناس المهملين، أولئك الذين يحملون على أجسادهم ما لا تُفصح عنه قواميس الأناقة. إنها لغة تتنفّس في تفاصيل الحياة اليومية، تتوسل ألّا يُنسى أصلها، وأن تُحكى بوقار، لا بسخرية.
فما أجمل اللغة حين تُنطق كأنها تُروى، وما أعمقها حين تكون كلّ كلمة فيها بابًا يفتح على دهشةٍ غير متوقّعة.