“مياس” تعود الى ربوع الوطن الأرز يحتفي بـ”نبيّ” جبران باستعراضٍ مبهر

تحت شعار “العودة” والتسلّح بالأمل لغدٍ أفضل، حلّقت فرقة “مياس” العالمية في سماء الوطن، عائدةً من مجدٍ عالميّ بعد جولةٍ فنيّة استعراضيّة مع الفنانة بيونسي، بعرضٍ استثنائيّ نسجته من روح جبران خليل جبران ورائعته “النبي” على خشبة مسرح مهرجانات الأرز الدولية التي استعادت بريقها بعد غيابٍ فرضته العواصف السياسيّة والاقتصاديّة المتلاحقة.
لم تكن عودتها مجرّد عرضٍ فنيّ، بل حدثًا وطنيًّا جامعًا تخطّى السياسة معيدًا للثقافة دورها التوحيديّ. ففي حضرة “مياس” تلاشت الفوارق وتجمّع الناس من الأطياف كلّها، مغتربون ومقيمون، سياسيّون ورجال دين، إعلاميون ومواطنون، تحت قبّة سماء الأرز في مشهدٍ يشبه صلاةً جماعية لوطنٍ جريح. وكعادتها أبدعت “مياس” في كل ما قدّمت، فلبنان بحاجةٍ الى طرفٍ غير سياسيّ يلمّ شمل ما فرّقته السياسة، فبدا لافتًا توافد الحشود على اختلاف الانتماءات ومن مختلف المناطق في مساحةٍ أرادها القيّمون على مهرجانات الأرز رمزًا للتسامح والوحدة الوطنية.
بدا العرضُ استثنائيًا اذ لم يقتصر على لوحاتٍ استعراضيّة عادية بل قدّم مسرحًا بصريًا متكاملًا، فثمة مجهود إخراجيّ، وتقنيّ، وابتكاريّ واضح، تداخلت فيه الإضاءة، والحركة، والموسيقى، والتقنيات المسرحية العالية مع سردٍ درامي عميق لحكاية جبران، الإنسان والفكرة. وجمعت الأمسيةُ بين التمثيل الحيّ مع ممثلين مخضرمين مثل سينتيا كرم وبديع ابو شقرا وعمّار شلق، وبين الرقص التعبيريّ والفولكلور الشعبيّ الأصيل والترابط الدراميّ، لتجعل من ميّاس اكثر من مجرّد فرقة استعراضية، بل تتعدّاها الى مسرحٍ يبني أعمدته ليشمل أشكال الفنّ الاستعراضي والمسرحي كافةً في قالبٍ واحد. وتنقّلت اللوحات بين الضوء والظلّ، بين الخير والشرّ، بين الروح والعقل، لتنقلنا إلى أعماق جبران: طفولته، صراعاته، آلامه، وتطلّعه السرمديّ نحو المطلق.
وتحوّلت سينتيا كرم، بصوتها وانغماسها الكليّ، إلى كائنٍ مسرحيّ متعدّد الوجوه: أمّ حنون، ملكة الظلام، راهبة الروح. فكان جسدها أداةً ناطقة بالشعر والحركة.
وجسّد بديع أبو شقرا جبران الشاب بنبضٍ جسديٍّ متحرّر، راقصًا بين الكلمة والفكرة، فيما أدّى عمار شلق دور جبران الشيخ، المتصالح مع موته، الحاضر في الغياب، الذي سلّم جسده للسماء في مشهدٍ ختاميّ طقوسيّ، أضاءته الشموع وهزّه صمت الجموع.
لم يكن العرض ترفًا بصريًا. كان كشفًا، طقسًا، محاولةً لاختراق الحجاب بين العالمين: الروحي والمادي، عودةٌ إلى الجذور لا بوصفها تكرارًا للماضي، بل بعثًا جديدًا لمعنى الوطن حين يحمله الفن، لا السياسة، وحين يصبح المسرح منبرًا للروح، لا للخطابة الفارغة.
“ميّاس” لم تعد مجرّد فرقة، بل باتت مشروعًا ثقافيًا يحتاجه لبنان: أن تُروى الحكاية بجمال، أن تُشفى البلاد بالرقص، أن نؤمن، ولو لحظة، أنّ في الفن خلاصًا.