مسرح

“مسرح المونو”… حين يُصبح الفنّ ضرورةً جوزيان بولس: الثقافةُ حاجةٌ تنبضُ فينا

في مدينةٍ تترنّح تحت أثقال النسيان والانهيار، يرفض «مسرح المونو» أن يتحوّل إلى مجرّد ذكرى مرفوعة على جدار، أو حنين يتبادله الفنّانون في اللقاءات. بل ينهض، من جديد، كموقع مقاومةٍ ثقافية لا يحتفي بالماضي فحسب، بل يتحدّى الحاضر ويغامر بالمستقبل.

منذ تأسيسه في أواخر التسعينيات مع إيمي بولس، بدا «المونو» استثناءً في مدينةٍ تخبّطت في الحروب والدماء. وها هو اليوم، وسط بيروت المتعبة، يعيد تعريف نفسه لا كمكانٍ للعروض فحسب، بل كمنصّةٍ للتفكير، وللأسئلة، وللفعل الثقافي القادر على التغيير.

لم يكن الاحتفال الأخير الذي أقامه المسرح مجرّد مناسبةٍ عاطفية. بل كان إعلانًا صريحًا عن رفض الغرق في نوستالجيا عقيمة، وتأكيدًا على التمسّك بالمسرح كحقّ لا كترف وقد أُلقي هذا القسم على مرأى من رئيس جامعة القديس يوسف الأب سليم دكاش، بحضور حشدٍ من رجال الفكر والثقافة وأهل الفنّ والاعلام.

لا تتحدّث جوزيان بولس، المديرةُ التي تولّت المهام منذ عام 2022 فحوّلت المكان الى خليّة نشاطٍ مسرحيّ نابض، بلغة التسويق ولا الاستعراض، بل بمنطق “الضروري”: “الثقافة ليست زينة، بل هواء يجب أن نتنفّسه، هي حاجةٌ تنبض فينا”؛ تؤكّد بولس بثقة في كلمتها عن المناسبة.

في زمنٍ تُستبدَل فيه المسارحُ بالشاشات، وتُقيَّم فيه الأعمال الفنية بعدد المتابعين لا عمق التجربة، يصرّ «المونو» على معايير أخرى: الصدق، والجرأة، وحريّة التعبير. هنا، لا يُخضع العمل الفنيّ لمزاج السوق، بل يُترك ليتنفّس، حتى لو تعثّر أو صدَم أو لم يُرضِ الجميع.

ما يميّز «المونو» ليس قدرته على البقاء والاستمرار فحسب، بل مرونته في إعادة اختراع نفسه. فهو بأقلّ من 12 موظفاً، وميزانيةٍ شحيحة لا تتجاوز الـ200 ألف دولار سنويًا، لا يزالُ يقدّم ما يتجاوز 60 عرضًا في عامٍ واحد، ويجتذب جمهورًا تجاوز الخمسين ألفاً. أرقامٌ متواضعة إذا قيست بلغة المال، لكنها ذات دلالةٍ كبيرة إذا قورنت بالخراب الثقافي العام.

وما يستحقُّ التوقف عنده هنا هو تلك الخطة التنموية المستقبلية الطموحة التي وضعتها بولس بإتقانٍ منقطع النظير وتمتدّ حتى 2030. في بلدٍ بالكاد يرى أبعد من يومه، يخطّ المسرح برنامجه بعينٍ ترنو نحو الأفق: مهرجانات، ورش عمل، جائزة سنوية، تجديد تقنيّ، وتعليم فنيّ ثقافيّ للأطفال. ليس هذا كلّه رفاهية، بل فعل مقاومةٍ ثقافية بامتياز.

ليس «المونو» اليوم عنوانًا على خريطة الفنّ في لبنان فحسب. هو مساحةٌ حرّة في مدينةٍ تختنق، ومرآةً نطلّ منها على ما يمكن أن نكونه، لا ما يُفرض علينا أن نكونه. مسرحٌ يَقبَل الهشاشة كما الجمال، التجريب كما النضج، الصوت المُرتبك كما الصرخة الواثقة.

لا يقدّم «المونو» اليوم عروضًا فحسب، بل يقدّم المعنى في زمنٍ فقد معظم المعاني. وهذا وحده كافٍ ليُبقي الضوء مشتعلًا.

 

كاتب وناقد |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى