“شيوخ الطرب” على خشبة “مونو”… حين تنطق بيروت بلهجة المقام

في زمنٍ يتسارع فيه إيقاع الحياة وتغيب فيه المقاييس الفنية الرصينة، جاءت أمسية “شيوخ الطرب” على خشبة مسرح المونو في الأشرفية لتعيد الاعتبار لفنّ الطرب كقيمة ثقافية وحضارية. فما قدّمته الجوقة بقيادة المايسترو عبود غفرجي لم يكن حفلًا موسيقيًّا تقليديًّا، بل حوارًا بين الماضي والحاضر، استحضرت فيه بيروت عبق حلب، مدينة المقامات والموشّحات والقدود.
تميّز الأداء بجمالية فريدة، إذ بدا التخت الشرقي كامتدادٍ للأصوات الشجيّة، فتداخل العود مع القانون والناي يشكّلوا نسيجًا موسيقيًّا يلامس الوجدان ويثير حنينًا جماعيًّا إلى زمنٍ كان فيه الغناء علمًا يتوارث، لا مجرّد ألحانٍ عابرة. لقد تجلّى ذلك في الموازنة بين صرامة القوالب الموسيقية ورحابة الارتجال، وهو ما يضع المستمع أمام تجربةٍ سمعية – وجدانية تكشف عمق المدرسة الحلبية في تشكيل هوية الطرب العربي.
لا تكمن قيمة هذا العرض في إحياء تراثٍ غنائي فحسب، بل في إعادة تذكير الجمهور بأن الطرب الأصيل مساحة للتأمل والسمو، بعيداً عن الاستهلاك الفني السريع. فحلب، التي أنجبت كبار شيوخ المقام، أثبتت مرة أخرى أنّ الغناء الأصيل ليس ترفاً، بل بنية ثقافية كاملة تنبني على التعلّم والانضباط قبل أن تُكلَّل بالتجربة المسرحية.
أهمية الأمسية أيضاً تتجاوز بعدها الفني، لتطرح سؤالًا حول دور الثقافة في مواجهة زمن الاستسهال، مؤكدة أن الأصالة ليست نوستالجيا عابرة، بل قوة متجددة قادرة على تجديد حضورها مع كل أداء صادق.
ولأن الطرب الحقيقي لا يعرف الحدود، تواصل الجوقة جولاتها عبر لبنان، ناشرة رسالتها الفنية – الإنسانية في القرى والمدن، ومؤكدة أن هذا الفن، مهما تعرّض للتهميش، يظل قادرًا على أن يجدّد نفسه في كل مقامٍ، وكلّ لحن، وكلّ قلبٍ يصغي بإخلاص.