“سرسق” يحتفي بنساء “الديفا” بمعرضٍ ساحر

يستعيدُ متحف سرسق بمعرض “ديفا… من أم كلثوم إلى داليدا” جزءًا عزيزًا من ذاكرة المنطقة الثقافية وتاريخ الفنّ العربي النسائي بمبادرةٍ جميلة بدأها معهد العالم العربي في باريس وتحطّ رحالها في بيروت حتى السبت 11 كانون الثاني 2026 .
ليس المعرض مجرّد حدثٍ فنيّ عابر، بل هو وقفةٌ تأمّلية ضروريّة في مسيرة نساءٍ تجاوزن النجومية ليتحوّلنَ إلى أيقوناتٍ للأنوثة والإبداع والنضال.
يرتبط اختيار مصطلح “ديفا”، بكلّ ما يحمله من دلالاتٍ إيطالية عريقة بالآلهة والحضور الطاغي، ولذا يسلّط المعرض بشكلٍ لائق بقاماتٍ مثل أم كلثوم، فيروز، صباح، داليدا، سعاد حسني وغيرهن. ليست هذه الأسماء لمجرّد مغنيات أو ممثلات، بل لرموزٍ اجتماعية وثقافية، كاسراتٍ لقوالب عصرهن، ومعبّراتٍ عن طموحات وتحديات المرأة العربية. أن يمتد هذا الاحتفاء لأكثر من قرن، ليضمّ من منيرة المهدية إلى ماجدة الرومي، هو اعترافٌ بأهمية هذا الإرث الفني المتجدّد الذي ما زال يتردّد صداه في وجداننا.
تجاوز الاستعراضية إلى العمق الاجتماعي
ما يميّز معرض “ديفا” هو قدرته على تخطّي الاستعراض البصري لفساتين نادرة ومقاطع مصوّرة، ليغوص في العمق الاجتماعي والثقافي لمسيرة تلك النجمات. وبهذا المعنى ليس المعرض مجرّد “أرشيف للأنوثة والفن”، بل هو تأريخٌ للنضال أيضًا، واحتفاءٌ بـ”صلابة النسوية وعزيمتها” في المجتمعات الذكوريّة، وبدورها في “الدفاع عن القومية العربية والنضال في سبيل الاستقلال”. ولعلّ هذا المنحى هو الذي يمنح المعرض بعدًا أعمق ويؤكّد على أن الفنّ في تلك الحقبة لم يكن بمعزلٍ عن قضايا الأمة والمجتمع، فالنجمات لم يمتعنَ الجماهير فسحب، بل كنّ جزءًا فاعلًا في تشكيل الوعي والوجدان العام.
ويؤكّد إصرار إيلودي بوفار على إقامة المعرض في بيروت بعد محطاتٍ عالمية على مكانة المدينة كعاصمةٍ للثقافة والفن.
من فستان فيروز في “قصيدة حب” و”أيام فخر الدين”، إلى صورها العائلية وجولاتها النادرة، مرورًا بفساتين صباح من تصميم وليم خوري التي أصبحت جزءًا من هويّتها، تشكل المقتنيات نوافذ تطلّ على عصورٍ من الإبداع، وتتيح للزوار التعرف الى تاريخ هذه الأيقونات. ليس تجمهر الزوار حول ركن أم كلثوم وهم يستمعون إلى “أنت عمري”، أو حول ركن فيروز مع “بحبك يا لبنان”، مجرّد تفاعل مع الفن، بل هو استدعاءٌ لذاكرة جماعية تحرّك الحنين وتؤكّد على خلود هذه الأصوات.
معرض “ديفا” تأكيدٌ صارخٌ بأنّ بيروت ما زالت “تخفق بالقلب” وبأنها حاضنةٌ أساسية للحياة وبأنّ الفن، بكلّ ما يحمله من قوة، قادرٌ على شفاء الجراح وتوحيد القلوب وإلهام الأجيال القادمة لمواصلة مسيرة الإبداع والنضال. ليست هذه المبادرات الفنيّة والثقافيّة ترفًا، بل هي ضرورةٌ قصوى لبناء مستقبل واعدٍ انطلاقًا من احترام الماضي وذاكرة قاماته الجميلة.




