سامي الحاج: لا أبيعُ حلم “الـبـاليرينا” والرقصُ تخصُّصٌ جديّ

في عالمٍ يُعاد فيه تعريف الفنّ كضرورة تربويّة وثقافيّة، لا مجرّد مساحة جمالية، يبرز اسم سامي الحاج كأحد الأصوات المؤثّرة في المشهد الفني اللبناني والعربي. راقصٌ ومدرّب ومؤسّس، حمل الباليه من الهامش إلى قلب المشهد، متحدّيًا التقاليد، ومؤمنًا بأن الرقص أكثر من حركة بل هو لغة تُروى بالجسد وتُصقل بالمعرفة.
في هذه المقابلة، يأخذنا الحاج في رحلةٍ شخصيّة وإنسانيّة بدأت منذ الطفولة، مرورًا بمسيرته مع عبد الحليم كركلا، وصولًا إلى تأسيس أكاديميّته الخاصة التي باتت تُشكّل حاضنةً حقيقية للمواهب. نقف معه عند محطّات التحدّي، ومفاصل التحوّل، ونستكشف رؤيته للمشهد الراهن، حيث يلتقي الإحساس بالحرفية، والانضباط بالشغف، والفنّ بالموقف البناء.
كيف بدأت مسيرتك الفنيّة؟
بدأتُ رحلتي مع الفنّ في سنّ التاسعة وكنت حينها أتعرّف الى عالم الباليه الكلاسيكي. ومع مرور الوقت، وبفضل دعم والديَّ والبيئة التي نشأتُ فيها، تطوّرت موهبتي. البيئة المنفتحة التي ترعرعت فيها أثّرت كثيرًا على مسيرتي لأنني وجدتُ الدعم اللازم وكان ذلك محرّكًا أساسيًّا لمضيّ قدمًا في مهنةٍ كانت حكرًا على النساء. كان من الصعب على الشاب في مجتمعنا العربيّ أن يصبح راقصًا من دون دعمٍ معنويّ، فمعظم الناس كانوا يعتبرون الرقص ممارسةً أنثوية وكان من الضروري أن تكون منفتحًا لتشذّ عن القاعدة.
كيف استطعت تخطّي هذه النظرة التقليدية؟
حين تدخل عالم الرقص من باب تعلّم المهنة أكاديميًا لإتقان تقنيّة الباليه الكلاسيكي الذي يحمل بُعدًا ثقافيًا راقيًا، تتغيّر النظرة التقليديّة الى ما تقدّمه، خصوصًا أنه يندرج في إطار العمل الراقي. لا وجود للخلاعة أو الابتذال في الرقص الحقيقيّ. ولحسن حظي، أدرك والداي موهبتي وتميّزي في هذا المجال ولم يفرضا عليَّ نشاطاتٍ نمطيّة مثل التايكواندو أو غيرها كما جرت العادة مع زملائي في المدرسة مثلًا. وكان هذا التشجيع الذي تلقيته من والديّ سببًا أساسيًّا في تسليحي ضدّ المفاهيم التقليديّة السائدة، وبالتالي كان دعمهما لا يُقدّر بثمن وهو سبب تميّزي وفرادتي.
بمَن تأثّرت في مسيرتك الفنية؟
كان الانضمامُ إلى مدرسة الأستاذ عبد الحليم كركلا تتويجًا فعليًا لمسيرتي فقد أكسبني ذلك كثيرًا من الثقافة والخبرة. لا يُعدّ التخرّج من هذه المدرسة مجرّد سيرة ذاتيّة مُشرّفة بل مسارًا يفتح أبوابًا لاكتساب المعرفة والثقافة العالمية.
كيف انعكست هذه التجربة على مسارك المهني؟
من خلال هذه التجربة، شاركتُ في عروضٍ بجميع أنحاء العالم، بالإضافة الى ورش عملٍ خارج لبنان في الباليه والجاز والمودرن. كما أنني طوّرت قدراتي علميًا وسرعان ما علّمتُ التقنيات التي درستُها لكثير من الفنانين ككيفيّة تقديم نفسهم أمام الكاميرا بحركاتٍ مدروسة ومميّزة تضفي جماليةً على فنّهم. وتوسّعت أعمالي لتشمل تنظيم الفعاليات الضخمة في الخليج وأوروبا ومناطق أخرى.
هل ما زلت مرتبطًا بفرقة كركلا؟
ما عدتُ أعمل مع فرقة كركلا اليوم. لي مسيرتي الشخصية التي تحمل اسمي وبصمتي، وعددٌ لا يستهان به من التلامذة الذين باتوا جزءًا من الساحة الفنية.
كيف تصف واقع الرقص في لبنان حاليًّا؟
تراجع مجال الرقص كثيرًا بفعل الأزمات التي مررنا بها، من جائحة كورونا إلى انفجار المرفأ وصولًا الى الأزمات المالية والمشاكل المختلفة. هناك خلطٌ غريب بين الرقص الحقيقي والحركات الرياضيّة أو ما يعرف بالـ”جيمناستيك”، فغابت القصة والإحساس، وبات الرقص يركّز على التقنيّة الجسدية وحدها من دون روحٍ أو معنى جوهريّ وبالتالي لم يعد ما نشاهده رقصًا حقيقيًّا.
وما هو الرقص الحقيقيّ برأيك؟
هو إحساسٌ أولًا. هو قصةٌ تُروى بحركةٍ مدروسة وموسيقى صادقة. الرقصُ لغةٌ عالمية، ولا بد من فهمها بالشكل الصحيح. تكمُن المشكلة برأيي في غياب الأكاديميّات الجادة، إذ لا يكفي افتتاح مدرسةٍ لتعليم خطوات الرقص فحسب، خصوصًا أنّ الموهبة الفعلية لا تُلقَّن بل تُصقَل، فوجود الموهبة والتميّز أمرٌ أساسيّ.
هل الموهبة وحدها كافية؟
لا تكفي الموهبةُ وحدها من دون التعليم الأكاديمي الصحيح. لا ينبغي التعامل مع الرقص وكأنّه نشاطٌ ترفيهيّ ثانوي، بل هو تخصّصٌ جدّي وينبغي أن يُدرّس كباقي التخصّصات، كي نُنتِج أجيالاً راقصة تمتلكُ إحساسًا مرهفًا تنقله للمشاهد وتتسلّح بتقنيات أصيلة. ولهذا السبب بالذات أسّست “أكاديمية سامي الحاج”.
وأيّ منهجٍ تعتمد في هذه الأكاديميّة؟
نبدأ بتدريب الأطفال من عمر الثلاث سنوات على الباليه الكلاسيكي ثم نتدرّج في المستويات إلى أن نصل إلى مراحل متقدّمة في الباليه، والجاز، والكانتين، والدبكة، والرقص الشرقي، والفانك جاز، والستايليش ستريتشينغ.
وما الذي يميّز مدرستك عن غيرها؟
الأجواء التي نقدّمها في المدرسة عائلية بامتياز، فنحنُ لا نعتبر من يقصدنا “طالبًا”، بل فردًا جديدًا ينضم إلى عائلة “سامي الحاج”، تمامًا كما تستقبلُ أيّ أسرة مولودًا جديدًا.
هل من شروطٍ معيّنة للانضمام الى الأكاديميّة؟
الانضباط أوّل الشروط وأكثرها أهميةً. ليس الدفعُ هنا مادياً فحسب، بل يدفع الطالب كذلك من خلال التزامه التام بقوانين الأكاديميّة. ليست الأخيرة مكانًا للتسلية، بل نُعدّ طلابنا أحسن إعداد كي تتبلور لديهم شخصية راقصة ببنيةٍ صحيحة وحرفيةٍ ملفتة للنظر.
هل من السهل اكتشاف موهبة الرقص لدى الأطفال؟
تتعلّق المسألة بطاقةٍ داخليّة وميلٍ فطريّ أولًا. ثمّة أطفالٌ يحبّون الرقص من تلقاء نفسهم، وآخرون يتأثّرون بالبيئة من حولهم. لكن هناك فئةٌ ثالثة لا تملك الرغبة ولا الموهبة، ويكون الضغط من الأهل هنا خطأ فادحًا لأنّه لن يؤدّي الى نتيجة. وأنا ضدّ فرض الرقص على الأطفال بالقوّة عند غياب الموهبة. والرقصُ بحدّ ذاته علمٌ يثري الموهبة ويبدأ بإتقان التوازن والتحكّم بالجسد.
كيف تقيّمون الطالب قبل انضمامه؟
نقوم بتقييمٍ بدنيّ يشمل الوركين، القدمين، والبنية الجسدية. وعلى عكس الشائعات المنتشرة لا يشوّه الباليه الرِجليْن بل يساعد على تحسين ليونتهما. نبدأُ بتدريب الأطفال أمام المرآة، فنراقب تفاعلهم، ونساعدهم على اكتشاف حُبّ الرقص بنفسهم.
نبدأُ بتدريب الأطفال أمام المرآة
ونساعدهم على اكتشاف حُبّ الرقص بنفسهم
وما هي نصيحتك للأهل الذين يفكّرون بإدخال أولادهم عالم الرقص؟
أقول لهم، ليس من باب الترويج، بل الأمانة: قبل اختيار أيّ أكاديميّة، اطّلعوا على سيرة المدرّس وخبرته، لا على إنجازاته فحسب، بل على القيم التي ينقلها لأبنائكم، خصوصًا أنّ طفلكم يقضي وقتًا لا يستهان به في الأكاديميّة ويتعلّم فيها مبادئ كثيرة الى جانب الرقص كحسّ الالتزام وضرورة بذل جهدٍ للاحتراف. فالرّقص يصقل الشخصية، ينشّط الخيال، ويُعلّم طفلك كيف يعرّي روحه أمام الجمهور بأجمل شكل. وبالتالي لا تجدنا نبيعُ حلم “صناعة الباليرينا”، بل ننقل الى أطفالكم شغف هذا الفنّ فيتعرّفون الى أصوله وتقنياته الأساسيّة كي يتسلّحوا بالاحتراف ويتميّزوا عن الآخرين.