“تشايكوفسكي” والأرملة “ناديجدا”

تلك التى جمعت بين الموسيقار العبقري والأرملة الثرية حيث كان أهم شروط هذا الحب ألا يلتقيا ولا يرى أحدهما الآخر أبدا حتى يظل الحب متوهجا. ورغم هذا الشرط العجيب استمر الحب لمدة 13 سنة وكان يزداد كل يوم اشتعالا عن طريق الرسائل الملتهبة التى بلغت 1200 رسالة.
إنها قصة الموسيقار العبقرى تشايكوفسكي (1840 ـ 1893) صاحب روائع “بحيرة البجع” و”كسارة البندق” و”الجميلة النائمة” مع السيدة ناديجدا، والأرملة الثرية جدا المولعة بالموسيقى، والتي كانت تميل إلى العزلة حتى إنها لم تحضر زواج بناتها.
بدأت العلاقة بالمراسلة وإعجاب السيدة ناديجدا إعجابا بالغا بفنه، ورأت فى موسيقاه حنينا داخليا يحيي روحها، كانت في الخامسة والأربعين جميلة وتملك ثروة طائلة، وحين علمت بحالته المادية السيئة طلبت منه أن يكتب لها بعض المقطوعات وكانت ترسل له مبالغ مالية كبيرة.
ثم تحول الإعجاب إلى حب وكانت تعيش محاطة بصورة تتأملها كأنها مقدسة، وتواصلت بينهما الخطابات باحترام وود شديد فى البداية.
تقول ناديجدا:
إن خطابات هذا المؤلف الموسيقى تعيننى على تحمل أحزان الحياة.
ثم اشتعل بينهما حب جارف لكن الغريب فى الأمر أن السيدة ناديجدا اشترطت عليه ألا تقابله، ولا تراه، ولا يراها حتى لا تخمد جذوة الحب بينهما.
وكتب لها: أينبغي أن أقول لك إنك وأنت بعيدة عني وفي غير متناول يدي أعز عندي من روحي، بل إنني لم أقابل قط في حياتى أحدا أقرب إلى نفسي منك.
وكتبت إليه، إنني كلما ازددت حبا لموسيقاك تضاعف خوفي من لقياك!.
وبدأت تدعوه ليقيم فى أحد قصورها، ثم دعته ليقيم فى منزلها بموسكو.
ودخل تشايكوفسكي إلى قصر من الرخام والبللور واللوحات الفاخرة. وفى الحجرة المخصصة له، وجد كل شيء يحتاجه: البيانو وسجائره المفضلة، والدواء الذي يتناوله قبل نومه، وأوراق الموسيقى. وتأثر الموسيقار العبقري بهذه الرعاية إلى درجة البكاء.
ثم لم تلبث الحبيبة أن دعته كى يمضي عدة أسابيع بالقرب منها، ولكن شرط ألا يراها طبقا لاتفاقهما السابق.
استأجرت له فيلا تبعد 500 متر عن قصرها الذى تقيم فيه مع حاشيتها وأولادها.
ووجد تشايكوفسكي كل شىء كالعادة معدا بعناية فائقة.
وفى الحال بدأت الرسائل بين المنزلين يحملها رؤساء الخدم كتبت إليه: إن الشعور بوجودك على مقربة مني لسعادة عظمى لا أستطيع أن أعبر عنها بالكلمات.
وطبقا للاتفاق كانت تعرفه بمواعيد خروجها حتى لا يتصادفا في الطريق. كانت كل يوم تمر فى الحادية عشرة صباحا أمام الفيلا التى يعيش فيها الفنان. ولو تصادف أنه كان يطل من النافذة، فإنه كان يولي فرارا إلى الداخل.
ثم تقدمت السيدة إلى الخطوة الأخيرة ودعته فى الصيف التالى إلى أن يقيم في نفس القصر الذي تعيش فيه، على أن يعيش هو فى مسكن هادئ فى نهاية الحديقة!، وجعلت من حجرته كالمحراب علقت فيها صورة مطوقة بالأزهار.
وكالعادة بدأت الرسائل بين الاثنين، كتبت له: يا لسعادتي أن أشعر بأنك عندي! إنه ليس الحب! إنه ضرب من العبادة!
وفى غمرة حماسه وسعادته راح الفنان يكتب الاوبرا الجديدة «عذراء أوزليان» وكان كلما أرسل لها ما يكتبه تستقبله كأنه آت من السماء.
ورغم أنهما كانا يعيشان فى قصر واحد إلا أنهما اتفقا على مواعيد خروجهما حتى يتجنبا أي لقاء، ويقعا فى المحظور طبقا لاتفاقهما.
ورغم كل ذلك حدث ذات يوم أن كانت مركبات السيدة ناديجدا تجتاز القصر متأخرة حوالي ساعة عن موعدها المحدد، ولم يكن الفنان أخطر بهذا التأخير المفاجئ وعند خروجه فوجىء بمركبة السيدة ناديجدا تتقدم صوبه وهى بداخلها! ولم يجد الرجل أي فرصة للفرار، والتقت عيونهما لأول مرة بعد 13 عاما من الرسائل والغرام المشبوب، فتملكه اضطراب عظيم، وأحنى رأسه محييا، ولم تكن هى بأقل منه اضطرابا، فأومأت برأسها ترد التحية.. استغرق الأمر لحظة، ثم أمرت سائقها أن يتابع المسير!
وأسرع تشايكوفسكى يكتب إليها معتذرا، لكنها كتبت اليه: تعتذر لأنك قابلتني مع أنني في قمة السعادة لهذا السبب، إني أحمد الصدفة الغريبة التى أتاحت لي أن نلتقي على هذا النحو! لقد جعلتني أحس حقيقة وجودك بيننا! لقد كنت سعيدة بعد أن رأيتك، سعادة تفوق كل احتمالي حتى إنني لم أستطع أن أحبس دموعي.
وأصبح نجاح تشايكوفسكي باهرا، ومؤلفاته تدر عليه المال الوفير، واندفع الجمهور إلى المسرح يحمله على الأعناق بعد مقطوعة “عذراء اوزليان” وأنعم عليه قيصر روسيا بوسام القديس فلاديمير، وغدت أوروبا كلها تتطلع إلى استقباله وموسيقاه، وفى ابريل 1891 تمت دعوته إلى جولة فى أمريكا، وتم تكريمه فى احتفالات تفوق الوصف.
لكن كل ذلك لم يبدد القلق لديه من توقف خطابات حبيبته ناديجدا، وعاد إلى منزله فى روسيا عله يجد رسالة منها، لكن أمله خاب.
وبعد بضعة أيام جاءته رسالة من زوج ابنتها، يخبره أن حماته مريضة، وأنها لن تستطيع أن تكتب له بعد ذلك. كانت أصيبت بالسل ولم تعد لديها القدرة على الكتابة.
كانت صدمة كبيرة لتشايكوفسكي وهو فى الحادي والخمسين من عمره وقال: لقد كنت أؤمن أن الأرض لتميد من تحت قدمي قبل أن تتحول مشاعر ناديجدا عني، ولكن هذا هو ما حدث! إن ثقتي فى الناس قد ذهبت، بل إن ثقتي فى العالم بأسره قد انقلبت رأسا على عقب.
وكان لهذه النهاية الغريبة أثر بالغ على آخر مقطوعات الفنان العظيم «السيمفونية الحزينة» التى جاءت ناطقة باليأس حتى قال عنها النقاد إنها أكبر عمل موسيقي عبر عن الحزن فى كل زمان ومكان.
وفى يوم 3 أكتوبر 1893 وبعد عزف السيمفونية بأربعة أيام فقط، أحس الفنان بألم فى معدته وراح يتلوى فى سريره ينادى الموت ويستعجله، وهو يهذى يائسا: ناديجدا.. ناديجدا.. تعالي تعالي.
وفتح عينيه وأغلقهما للأبد دون أن يراها، وبعد شهرين من وفاته ماتت حبيبته أيضا.. لم تحتمل العيش بدونه ليسدل الستار على أغرب قصة حب فى العالم.