مقالات

“بالدمّ”… نجاحٌ ساحق أبعد من الترفيه – جولي مراد

يستحقّ مسلسل #بالدمّ الذي كلّل الموسم الرمضاني الحاليّ كلّ ثناء: سيناريو محكم؛ تمثيلٌ مبهر؛ اخراجٌ حرفيّ والأهمّ أنّ نجاحه لبنانيٌ صرف… هو باختصار مسلسلٌ مولودٌ من رحم الواقع؛ مجبولٌ بتجارب حقيقية ملموسة… كنا أمام مرآةٍ تنقل آفاتنا بأدقّ التفاصيل فرأينا في انعكاسها ملامحنا بشعةً قبيحة بقناعٍ يتبدّل مع كلّ ضحية…

انّها قصصنا المؤلمة المفجعة؛ تلك التي تنزل علينا كالصاعقة في النشرات الاخبارية وثرثرات الجيران وزملاء العمل وروّاد المقاهي والصالونات…

بدأ المسلسل بانطلاقةٍ وردية ليذوب الثلج رويدًا رويدًا مع تقدّم الحلقات كاشفاً عشرات العورات والأسرار خلف الأبواب الموصدة؛ فتوالت الأحداث بحبكةٍ متقنة مرّ المشاهد خلالها بقضايا من ألف لونٍ ولون، من جرائم شرف واغتصاب؛ الى فساد مستشفيات واتجار بالبشر؛ الى مأساة العقم؛ الى آفة التخلف والتنمر والذكورية والاستقواء بالسلاح؛ مروراً بعلاقاتٍ معقّدة كخيانة صديق لصديق أو تخاذل الجسد عن أدائه لوظيفته ما يستدعي استعارة أعضاء الآخرين… هي كلّها موضوعات العصر تلقّاها المشاهد بجرعاتٍ صادمة كأنّها تصيبه في عقر داره.

يصف ستانيسلافسكي؛ عرّاب مدرسة التمثيل الحديثة؛ مهنة التمثيل بالـ”نبيلة”؛ كونها ترتكز على امّحاء هوية الممثل لتقمّص شخصيةٍ أخرى حدّ الذوبان. وهنا يكسب طاقم #بالدم الرهان بجدارةٍ بنقله المشاهد بسلاسةٍ فائقة الوصف الى لحظاتٍ تكاد تلمس أنينها لشدّة ما احتوت اتقانًا بارعًا في الأداء وحرفيةً في التصوير والاخراج.

وفيما راح المسلسل ينكأ الجراح بدهاءٍ صارخٍ، نجح- بالوقت عينه- في تحويل انتباهنا الى المئات، لا بل الآلاف حولنا، ممّن لا نعيرهم عادةً أهميةً، أولئك الذين لا ينالون شرف دقيقةٍ من وقتنا الثمين، أولئك الذين نترك للوحوش الحائمة بيننا حرية التربّص بهم ثم الانقضاض عليهم بهمجيةٍ عنيفة… فكمّ من “عدلا” في أحيائنا؛ في مدارسنا؛ في مكاتبنا؛ في كلّ زاوية من طرقاتنا؟ وكم منّا أساسًا يبادر فعلاً الى إزالة الكرب عن هؤلاء؛ بلفتةٍ؛ أو أذنٍ صاغية؛ او يدٍ ممدوة؛ أو حضنٍ دافئ…

كمّ مِن “مختار” في شوارعنا؟ كم مِن “نظيرة” في مجتمعاتنا التعيسة؟ فَعَلَ بالدمّ مع “عدلا” فِعلَ فيلم “كفرناحوم” لنادين لبكي مع أطفال الشوارع… قبل العمل ليس مثل ما بعده… لم ننظر الى اطفال الشوارع بالطريقة عينها بعد “كفرناحوم” ولن ننظر الى مثيلات “عدلا” بالمنظار نفسه بعد “بالدم”… سنصبح كلّنا أقلّ حكماً على المهمّشين والمتسكّعين المنسيين في الشوارع؛ تماماً كما أصبحنا أكثر تفهمًا مع الأطفال المتسوّلين مع “كفرناحوم”. سنكون ألين قلباً مع مكسوري الخاطر؛ وأكثر تعاطفاً مع ضحايا العنف على اختلاف انواعه؛ وهذا لعلمي انجازٌ يفوق نجاح المسلسل “الشكليّ” كونه يتوخّى ما هو أبعد من مجرّد “الترفيه” ليُحدِث فارقًا جذريًا ويحثّ على التغيير نحو الأفضل…

جميلاً كان هذا المسلسل ومبهرًا في آن، خصوصًا حين ترك لتعابير الوجه ولغة الجسد مهمّة قول الكثير دون النطق بكلمة في معظم الاحيان. يقرأ المشاهد المشاعر الدفينة بلغة الجسد؛ يتلقّفها في غصّة الصوت، ودفء الضمّة وفي نظراتٍ تنطق بما يعجز عنه اللسان… تكامل العمل حين جاء معطوفًا برسائل نبيلة كمسألة وهب الأعضاء وضرورة توعية المشاهد الى وجود الآلاف ممّن يعانون فقدان الهوية لألف سببٍ وعلّة… انّها براعة المخرج وسلاسة السيناريو البعيد عن الإطناب والحشو اللذين طالما لوّثا الاعمال المحلية؛ وهذه البراعة بالذات هي التي جعلت المشاهدين يتسمّرون امام الشاشات تعطشًا للحلقات الجديدة فتربّع المسلسل على عرش الدراما الرمضانية رغم منافسة مسلسلاتٍ أخرى بنجومٍ يُحسب لهم ألف حساب.

وفي ختام المسلسل غضب بعضنا لأنّه من المؤمنين بالنهايات المعلّبة السعيدة؛ تلك التي لا يموت فيها البطل وينتصر فيها الخير على الشر؛ فتكون له دومًا الكلمة الفصل في مآل الأمور مهما تعقّدت الظروف وطال الزمن…

ليست قاعدةً ان تأتي الخاتمة وردية؛ ولعلّ العكس هو الأصدق في بلداننا التي تميلُ فيها الدفّة الى الشرّ، بلداننا حيث تنتفي العدالة ويبقى أبسط الحقوق حلمًا بعيد المنال…

كانت نهايةً كئيبة لأن “الدنيي هيك”؛ تمامًا كما كان يردّد على مسامعنا بحكمةٍ “مختار” الزمن الجميل.

لم تزعجني الخاتمة كأترابي من اللبنانيين بل زادتني اعجابًا بالعمل لبعده عن الكليشيهات الافلاطونية المعتادة… ومع أنني لم أُصَنَّف يومًا من المعجبين بماغي أبو غصن؛ إلا أنني أرفع لها القبعة على براعة أدائها في هذا العمل؛ وأهنّئ طاقم المسلسل فردًا فردًا؛ أثني عليهم جميعاً، مِن أصغر ممثلٍ الى أطولهم باعًا- لأنّهم تشاركوا سواسيةً حرفية التمثيل المُبهر والأداء الطبيعي المُقنِع وأعادوا الى الدراما اللبنانية ألقها…

والى المنتج ألف تحية وعسى ان تُكرّس الاستعانة بالمواهب اللبنانية قاعدةً ذهبية؛ لأنّها برهنت بجدارةٍ لا لبس فيها أنّها لا تقلّ مهارةً عمّن تتهافتون لشراء مسلسلاتهم الغريبة عن مجتمعنا اللبناني ونبضه بمبالغةٍ غير منطقية- ان لم نقل غير “وطنية”- وهو سببٌ أساسي في إضراب عددٍ لا يستهان به من اللبنانيين عن متابعة المسلسلات التلفزيونية اللبنانية…

أكبر نصرٍ حقّقه “بالدمّ” هو انتزاع اللبنانيّ من المنصات العربية والأجنبية لإعادته الى مكانه الطبيعي، الى الشاشة المحلية، وهو انجازٌ يستحقّ حكمًا كثيرًا من التصفيق…

أملُنا كبيرٌ في مزيدٍ من الأعمال اللبنانية مستقبلاً فمن حقّق كل هذا التألّق الاستثنائي عربيًا ومحلياً لن يُفرط بالتأكيد بمقوّمات نجاحه…

Julie Mourad
Website |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى