مقالات

انطوان كرباج علامة فارقة في التّمثيل – د. جورج شبلي

انطوان كرباج هو المحاولة البارعة في عِلم المسرح، لأنه أَعرَفُ الواقِفين على أسرارِ خشبته. فقد لازمَها في صحبةٍ دامَت طويلًا، فكان الأَعظمَ في الحِرَفيّة، والأَقدرَ في مواسم النّجاح. إنه من الأَعيان الذين استقامَ معهم العمل المسرحي، لانفرادهم بالموهبة، حتى قيل : إنّ انطوان كرباج يروّضُ الخشبة.

لم يكن نجاحه وليد الصدفة، بل بفَهم وقَصدٍ هما مِعيارا بلوغِهِ التألّق، فقد وعى الصعوبات، والمسارب، والعقبات، والشَّوك، فبنى لها في ذهنِهِ حُلولًا طبَّقَها في النُّطق وفي الحركات، وبلغَ القمّة. وكان للمَهدِ الجَبَليّ كبيرُ أَثَرٍ في الرَّجُل، صلابةً وعَزمًا، ونزعةً الى الفَوق، من هنا، لم نجدْ أمامنا ” كرباجَ الروتيني” إنّما ” كرباج النَّفور المتفوِّق “، صاحب السّلوك الخلّاق، لذلك كان هذا الجَبَلِيُّ قادرًا على اتّخاذ مبادرات ناجمة عن تركيزٍ فوريّ أكثر من عادي، وهذا ما يفصلُ بين الفنّان الأصيل، والفنّان الاصطناعي.

إنّ التّماهي بين انطوان كرباج والتّمثيل، يفوق أيّ مدًى، فهو مُمَنهَج بدون اجتهاد، وكأنّ بينهما حالةَ حُلولٍ تُجاوِزُ قوانين الفيزياء، تندفعُ في مسيرةٍ صوبَ الأعلى من دون أن تُقيمَ حسابًا لتأثير الجاذبية. لقد كان كرباج يتمتّعُ بالحذق، والابتكار، والمبادرة، والحِرفيّة، فلطالما شكّلَ القاطرةَ التي كانت تدفعُ بالعمل الفنّي، إن على المسرح، أو في التلفزيون، الى سُدَّة النّجاح.

إنّ التّمثيل هو البيئةُ الطبيعية لأنطوان كرباج، يختنقُ خارجَها، ولا ينتظمُ فكرُه إلّا في إطارها. المسرحُ هو عشيرتُه، تبوَّأَ فيها مركز القيادة، لأنه مستحِقّ، ومع ذلك، لم يُلقِ بالًا للغطرسة، والكبرياء، بالرَّغم من ” إمبراطوريّته “، ولم يفقد الاتّجاه لأنه كان يعي الفصلَ بين عالَم الادّعاء، والاستعلاء، وبين عالَم الوزنِ الطبيعي، ولا بدَّ من التّواضع.

انطوان كرباج ” أستاذ الأبجديّة ” المثقَّف، والمُكتمِل النّضوج، كان يقيم علاقاتٍ نوعيّة مع المُرسَل إليهم، فكثيرًا ما تعدّى مضمون الرسالة التي كان ينقلها الى المُتلَقّين كمَعلومةٍ وإِخبار، لينشئَ معهم وشائج حميمة، يُغدِقُون عليه، إِثرَها، الحظوةَ المميَّزة، باقتناعٍ مرموق، فمردُّ ذلك، حتمًا، الى اعتبارِه جديرًا بالتّقديرِ والتّكريم، وليس بالمساندة.

لم يكن كرباج مجرَّدَ قاطِنٍ في هيكل المسرح، أو مُستَلقيًا مُتَفَرِّجًا على ضفّة بِركَتِهِ الرّاكِدة، فالمسرح، بالنسبة إليه، كالحياة، مجرى يفرضُ التّجديد، فالتّقليدُ تَبَعيّةٌ، وهو لم يكنْ مأثورًا مع كرباج، فما تردَّدَ، مرةً، في الانسلاخِ عنه الى حِراكٍ ابتكاريٍّ ثوريّ شكّل نقلةً نوعيةً في كيفية التّمثيل، وأُستاذيّتِه. من هنا، عَقَّمَ كرباج المسرح، وأضاف جديدًا بعُصيانِهِ المُكَرَّر، فكان له سلطةٌ خفيّةٌ قادرةٌ على قَولبةِ الشكّ والالتباسِ حقيقةً ناصعةً نقيّة، وذلك، بقدرةٍ ملحميّة، تجعلُنا نتخطّى الأشكاليّة المعروفة : “هل المسرحُ يقول الصّدق ؟”، لنتبنّى مَسرَحَةَ كرباج، بدون جِدال، وبدون قوى إثبات، وكأنّها الصّحيحُ المحض.

أنطوان كرباج صاحب القلب الصّادق، لم يكن ممثِّلًا بالإسم، فهو آمنَ بالمسرحِ عقيدةً ناشطة، لذلك، أَطلعَته الأرضُ في ” جبال الصَوّان ” أَمردًا، لمعَ دُرُّهُ فأعجبنا.

دكتور في الأدب وباحث أكاديمي |  + posts

دكتور في الأدب والفلسفة والفكر الإستراتيجي بالإضافة الى دبلوم في الترجمة ودبلوم في التاريخ. شاعر وخطيب، ومحاضر في الثقافة السياسية، وباحث أكاديمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى