الإعلام اللبناني… حين يحوّل الثقافة إلى سلعة

في بلدٍ يتنفّس الإبداع رغم المحن، كان مِن المنتظر أن تكون الثقافة الملاذ الأخير، والمساحة الحرّة التي تنجو مِن وحول السوق ومنطق الربح. غير أنّ الواقع الإعلامي اللبناني، لا سيّما على مستوى القنوات التلفزيونية المحلية، يشي بعكس ذلك تمامًا. فقد تحوّلت الثقافة، في منظار كثيرٍ مِن المؤسسات الإعلامية، مِن فعلٍ إنسانيّ مُقاوم، إلى “بيزنس” يُقاس بالعوائد ويُقوّم بحسب حجم التمويل والدعاية.
ليس غريبًا اليوم أن يسألك بعضُ وسائل الإعلام عن ميزانيّتك قبل حتى أن يسأل عن مضمون العرض المسرحي، أو نوعية المعرض الفني، أو رؤية المخرج في عمله السينمائي. لقد استبدل المنتجُ التلفزيونيّ دورَه كمساهمٍ في صناعة الوعي بدور “السمسار” الثقافي، يساومُ على الهواء، ويتاجرُ بالمساحات الثقافية، كما لو أنّها بقعة إعلانية أخرى بين ماركة منظف ومشروب طاقة. وهكذا يهبط بالثقافة الى مستويات مخجلة بدلَا من الارتقاء بها الى موقعها النبيل في القمة لا في درك العملة الخضراء وبازارات الدفع.
لا بدّ هنا من طرح سؤالٍ جوهريّ: ما دورُ الإعلام؟ هل هو مجرّد ناقل صورة؟ أم هو صانعُ رأي ومسؤولٌ عن تغذية الذائقة الجماعية؟ في النموذج الذي نراه اليوم، استقالت وسائل الإعلام مِن دورها كرافعةٍ للثقافة، وسقطت في فخّ الابتذال والتفاهة، حيث باتت المساحة الثقافية لا تُمنح للفكرة، بل للمبلغ المدفوع خلفها.
قد يُبرّر البعض ذلك بضيق التمويل، وانهيار الاقتصاد، وضرورة تأمين الموارد. لكن هذه الأعذار تخفي في العمق تواطؤًا ثقافيًا خطيرًا، يقضي تدريجًا على أيّ احتمالٍ لنقاش حرّ، أو نقدٍ جماليّ، أو مساءلة فكرية. فتحوّل الكاتب والفنان والمثقف إلى زبون، لا شريك، وتحوّل المنتج إلى حارس بوابة لا يسمح بالمرور إلا لمن يدفع اولًا.
وسط هذا المشهد القاتم، ثمّة بصيص أمل. اذ ما زال بعض الوسائل الإعلامية؛ على ندرته؛ يرفض هذه القاعدة، ويمنحُ الثقافة منبرًا حقيقيًا، غير مشروط. ولعلّ الرائد في هذا السلوك النبيل هو “تلفزيون لبنان”، الذي رغم تخبّطه في المشاكل الاقتصادية يأبى التخلّي عن دوره كمنبرٍ للمواطنين مِن مختلف الأطياف والطبقات مؤكّدًا أنّ المسألة ليست في المال فحسب، بل في القيم والاختيارات؛ فأن تكون منبرًا للثقافة يعني أن تحمي استقلالها، أن تؤمن بأنّ الفن والفكر لا يُباعان في المزاد.
إذا كانت الثقافة هي مرآة المجتمع، فإنّ الإعلام هو الضوء الذي يكشفها. فإما أن نضيء مرايا الوعي، أو نستمرّ في تلميع واجهاتٍ بلا روح، تُرضي السوق وتخون الفكرة. والمجتمع الذي يخذل ثقافته، يُمهّد الطريق لخذلانٍ أعمق: خذلان الإنسان لنفسه.