ناس غير شكل

الرجلُ الذي كَشف السمّ القاتل

لعدّة عقود، كانت البشرية غافلةً عن عدوّ غير مرئيّ يتسلّل إلى الهواء الذي نستنشقه، يتسرّب إلى الطعام الذي نتناوله، يختلط بالماء الذي نشربُه بل حتى يسري في دم أطفالنا. قاتلٌ صامت لا يصرخ لكنّه يفتكُ، يُضعف العقول، يُنهك الأعضاء، ويترك ندوبًا لا تُمحى عبر الأجيال. اسم هذا القاتل؟ الرصاص.

أما المأساةُ الكبرى فكانت في الصمت المُخزي حيال ضرورةٍ حظره.

لم يتحرّك أحدٌ، لم يُرفَع صوتٌ واحدٌ لإنذار العالم، لأنّ كشف الحقيقة كان لِيُكلّف الشركات الكبرى ثرواتٍ طائلة.

ساد صمتٌ مُطبق حتى رفع شخصٌ واحدٌ الصوت عاليًا، كلير باترسون—العالِم المهووس بالدقّة، الباحث الذي لم يكن يسعى أبدًا للظهور، بل كان يبحث عن إجابةٍ بسيطة: كم عمر الأرض؟ ولمعرفة ذلك، راح يقيسُ نسبةَ الرصاص في الصخور القديمة والنيازك، ليكتشف بأنّ كلّ عيّنة كانت مُلوّثةً بالرصاص.

أصابه الذهول. راح يحفرُ أعمق، يأخذُ عيناتٍ مِن الهواء، مِن المحيطات، مِن جليد غرينلاند، ليكتشف حقيقةً مُرعبة: الرصاصُ يجتاح العام. أما مصدره فالبنزين المحتوي على الرصاص، إذ كانت كلّ سيارة مُستخدَمة تُطلق سُحبًا مِن السموم، تتغلغل في أجسادنا، تصلُ إلى دماغ الطفل قبل وصولها إلى السماء.

وعندما أطلق ناقوس الخطر، حاربوه. سخروا منه، منعوه مِن دخول المختبرات، قطعوا عنه التمويل، وحاولوا إسكات صوته.

لكنّه لم يتراجع. واصل البحث، واستمرّ في رفع الصوت حتى تحوّلت الأدلّة إلى معلومةٍ دامغة لا يمكن إنكارها.

وبفضل إصراره العنيد، تمّ فعلًا حظر الرصاص مِن البنزين في كثير من الدول. وماذا كانت النتيجة؟ انخفضت مستويات الرصاص في دم الأطفال بنسبة 80%، وتمّ إنقاذ ملايين الأرواح. حصل كلّ ذلك لأن رجلًا واحدًا تجرّأ على قول الحقيقة.

لم يُطلعنا كلير باترسون على عمر الأرض فحسب، بل كشف لنا حقيقةً أعمق وهي أنّ الدفاع عن الحياة يتطلّب الدخول في مواجهةٍ مع السلطة، حتى لو كنت تقف وحدك.

BEIRUT CULTURE
Website |  + posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى