مسرحمقالات

“بالسابع” لـ جو الخوري على مسرح “مونو”… رحلةٌ وجوديّة بكوميديا سوداء

تُقدّم مسرحية “بالسابع” لِجمهورها تجربةً مسرحيةً فريدة تتأرجحُ بين العبث والوعي، بين الموت كبداية والحياة كامتداد، في تـولـيفـة كومـيـديا سـوداء تُـلامِــس أغـوار الوجود الإنساني. العملُ من تأليف جـو الخـوري وتمـثيلـه، وإخـراج مـيراي بانوسيان، وعُرِضَ على خشبةِ مسرح “مونو” في الأشرفية لأربعة أيامٍ مُتتالية.

من الناحية النصيّة، يُظهر الخوري جرأةً في الطرح، إذ يعالجُ موضوعاتٍ شائكة مثل الموت، الولادة، العائلة وتعقيداتها، والتقاليد المُتوارَثة مِن منظورٍ معكوس: لا يبدأُ مِن الحياة لِينتهي بالموت، بل مِن الموت ليبدأ حياةً جديدة في رحم الأم التي ستلِدُه.

تبدأُ المسرحيةُ بالطفلِ في أحشاءِ أمّه، والمربوط بالعالم الخارجيّ بِصلة الرحم. يحيا الجنينُ على نبضِ الخارج وإيقاعاتِه المُتلاحِقة مِن حميميّةٍ ونشوة، وفرحٍ وتوتّر، وسطوةِ مجتمعٍ مُتحكّم بِمصيره حتى قبل ولادتِهِ. هذه الفكرةُ، وإن بدتْ عبثيةً ظاهريًا، تحمِلُ في طيّاتِها تأمُّلًا فلسفيًّا حول إعادة التكوين والهروب مِن ماضٍ لم يُعَش بعد. “رسالتي واضحةٌ في هذا العمل؛ فإنْ لَم تَتصالَح مع ماضيك لا يسعُك المُضيّ قُدُمًا”، يؤكّد الخوري في حديثٍ على هامِش العرض. من حيث الأداء، يبرعُ الخوري في احتلالِ الخشبة، ويقدّم شخصيةً مُركّبة تجمعُ بين السُخرية الحادّة والمرارة المُستَتِرة. يتمكّن مِن توظيف صوتِهِ وجسدِهِ لِنَقلِ التحوّلات الداخلية للشخصيّة، وهو بذلك يُقدّم نمطًا مُغايرًا عمّا شاهدناهُ في مسرحيّته السابقة “تستوستيرون”. “بطبعي أحبُّ تقديم كلّ ما هو جديد، لذا لا ترونني بدورٍ مُشابهٍ أبدًا مِن مسرحيةٍ الى أُخرى؛ بل غالبًا ما أبحثُ عن التنويع في أدواري”؛ يقول الفنان الشاب بابتسامةٍ عريضة.

لا تتوسّلُ المسرحيةُ إرضاء الجمهور، بل تدفعُهُ للتفكير، ولكنّها لا تسعى إلى التسلية بمعناها الاستهلاكيّ، بل تتعمّدُ أن تكون مرآةً صادقة يرى فيها الإنسان صورَتَه وهواجسَه حتى قبل ولادتِه ووصولِه الى عالمٍ معقّدٍ يعجّ بالقيود والشوائب.

تُمثّل “بالسابع” تطوّرًا واضحًا عن تجربة الخوري السـابقة “تستوستيرون”. فبيْن العملَيْن، ثمّة نضوجٌ في الطرح ونقلةٌ في بناء الشخصية، وإن كان الخيطُ الساخرُ يربطُ بينَهُما، إلا أنّ هذه المسرحية أعمق من مجرّد أداء مُنفرد؛ هي مشروعٌ وجوديّ قائمٌ بذاته، ولادةٌ حقيقيّة وغير قيصريّة للفنان الشاب. ولعلّ الفضل الأساسي يعودُ للإخراج لِما كان لَهُ مِن دورٍ حاسمٍ في منحِ النصّ بعدَهُ الحيويّ. فقد استطاعَت بانوسيان أن تبني فضاءً مسرحيًا مُتحَرِّكًا، تتناوَبُ فيه الأضواءُ والحركات بانسيابيةٍ، ما يفتح الباب أمام التأمُّل لا التلقين.

وقد طوّرت المخرجةُ بمهارةٍ موهبةَ خوري التمثيليّة فعمِلَتْ على لُغتِه الجسديّة وصوتِه وقدرتِه على التعبير عن أحاسيسِه بصدقٍ كبير: “أعجبني النصّ الذي وضعَهُ جو؛ مخيّلتُه الواسعة التي أفضَت الى كتابة مسرحيةٍ بِبُعدٍ انسانيّ يحكي عن العلاقة بين الطفل؛ والأم والأب والعائلة. فالفكرةُ مُبتكرة ومسرحُها رحم امرأةٍ يعيش فيه طفل لم يولد بعد”، تُعلّق بانوسيان التي تخوض غمار الاخراج المسرحيّ لأول مرّة بجدارةٍ فائقة.

وتتابع: “أحبّ شغف جو وتفانيه في عمله. كان لا بدّ لي من مساندته كشابٍ طموح، فهذا دوري أساسًا كأستاذةٍ محاضرة في التمثيل وهي مهنةٌ أمارسها منذ ٣٥ عامًا وأرى أنّ مستقبله واعدٌ في هذا المجال”.

ليست “بالسابع” مسرحيةً تقليديّة إذًا، ولا ترغبُ في أن تكون كذلك. إنها عملٌ يتحدّى المألوف. ويحتاج هذا النوع من الأعمال إلى دعمٍ مستمرّ، لأنه يكسِر قوالب الارتجال المجانيّ، ويُعيد للمسرح وظيفتَه الفكريّة بوصفِه مُختبرًا للوعي الإنسانيّ وليس مجرّد مساحةٍ للترفيه.

تعودُ “بالسابع” الى خشبة “مونو” في ٧ و٨ تموز ٢٠٢٥

Julie Mourad
Website |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى