هراير: أطمحُ الى الأفضل دومًا وانتمائي المزدوج مدعاةُ فخر

فنانٌ تشكيلي لبناني من أصل أرمني، يُعتبر من أبرز الوجوه في عالم الفن المعاصر في لبنان. وُلد في بيروت عام 1950، وتـخـرّج من أكـاديمية الفنون الجميلة، حيث بدأ مسيرته الفنية مبكرًا. يتـمـيـّـز أســلوبـه بـالألــوان الجـريئة والتكوينـات الرمـزية التـي تـعبّر عن الهوية، الذاكـرة، والانتـماء. شارك في مـعـارض دوليـة ومحـلية كثيـرة، ولـه أعمال مقتناة في متاحف ومجموعات خاصة حول العالم.
كيف بدأت بالرسم؟
بدأت علاقتي بالرسم منذ الطفولة. كنت أحبّ الألوان والخربشة على الورق كما معظم الأطفال. كان ولعي الرسم على دفاتر المدرسة منذ كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري. وكان لوالدتي تأثيرٌ كبير عليّ في هذا المجال، لأنها كانت عاشقةً للفنّ على الرغم من عدم تحصيلها للعلم.
نشأت أمّي في منزلٍ يلفّه الحنان وسط عائلة تقدّر الفن. خالتي “إيزابيل” كانت جميلة الصوت وأمي تعشق السجاد والتحف الفنية واللوحات التشكيليّة. تشرّبنا الفنّ منذ الطفولة ولكنني الوحيد في العائلة الذي استمر بهذا الشغف الفني خاصة في مجال الرسم.
عند بلوغي التاسعة رحت أرسم البورتريهات، وكانت تلك بداية مشواري الفني.
التحقت بالليسِيه الفرنسية، وبعد البكالوريا بالأكاديمية اللبنانية للفنون حيث تخصّصت في الرسم والهندسة المعمارية الأكاديمية. عملتُ على تحسين مهاراتي فأمضيت ساعاتٍ بالرسم والتقيت كثيرًا من الفنانين الذين أصبحوا لاحقاً علاماتٍ فارقة في الفنّ.
في السنة الثالثة من دراستي الأكاديمية، شاركت في مسابقةٍ هدفها تزيين القصر الجمهوري الجديد.
طلب المنظمون تصميم جداريات بثلاثة مواضيع رئيسة: جدارية تنقل جمال الطبيعة اللبنانية، وثانية خاصة بصالة المناسبات، وأخرى بمدخل القصر الذي أرادوا له جداريةً تحكي “معركة عين دارا”. شارك مئات الفنانين والمهندسين في المسابقة، وضمّت لجنة التحكيم خبراء كبار من فرنسا. ورغم أنني كنت طالباً صغير السن، حصدت الجوائز الثلاث دفعةً واحدة؛ فكانت تلك انطلاقتي الحقيقية في هذا المجال فتيقّنت بأنني فنانّ أكثر ممّا كنتُ مهندسًا.
متى كان أوّل معرض لك؟
تواصلت معي زوجة الشاعر والكاتب يوسف الخال لتخبرني عن مشروعٍ لهم بافتتاح “غاليري وان” الجديد ورغبتهم في دعم الفنانين الصاعدين.
وتألّف الغاليري من صالتيْن، إحداهما لأعمال كبار الفنانين على غرار بول غيراغوسيان، وشفيق عبود، وسعيد عقل وغيرهم وأخرى لدعم الفنانين الصاعدين. أحبّ يوسف الخال أعمالي وأصرّ لاحقًا على تنظيم معرضٍ خاص لي وحدي، فحققنا نجاحًا باهرًا رغم بساطة الأسعار التي تقاضيتها عن اللوحات آنذاك.
كنت في بداياتي شديد التأثر بفنّ الأيقونات والمنمنمات الأرمنية والإيرانية
كيف بنيت أسلوبك الخاص بالرسم؟
كـنت في بـداياتي شـديد الـتأثر بـفـنّ الأيـقـونات والمـنـمنـمـات الأرمـنـيـة والإيرانية. طوّرت هذا الميل بأسلوبٍ عصريّ حمل بصمتي الخاصّة وسرعان ما دُعيت لتقديم أعمالي في أهمّ المعارض الدولية في فرنسا وبريطانيا وروما ومعظم بلدان الخليج والعالم العربي كالكويت وأبو ظبي ودبي وعمان والأردن وسورية. ولا بدّ لي هنا من ذكر المملكة العربية السعودية كنقطة تحوّل بارزة في مسيرتي حيث افتتح معرضي بحضور الملك سلمان.
أخبرنا عن اعجاب الملكة إليزابيت بلوحاتك
شاركت بمعرضٍ في البرازيل لتمثيل لبنان في فعاليات بينالي سان باولو، اذ كان الحاكم باولو سليم من أصل لبناني وداعمًا كبيرًا. زارت الملكة إليزابيث المعرض الرسمي في العام 1972 فأبدت إعجابها بأعمالي، فاشترى الحاكم إحدى اللوحات وطلب مني تقديمها شخصيًا كهديةٍ من سان باولو إلى الملكة في عشاءٍ كبير. وهكذا حصل وحين رأت الملكة لوحتي أعربت عن إعجابها الشديد واشـتـرت الأســرة المالكة لوحتيْن إضافيتيْن لي فشعرت بفخرٍ كبير. طوال مـسيرتي كنتُ مـحظوظًا لاهتمام شــخصياتٍ بارزة بأعـمالي كغرايس أميرة موناكو وجاكلين كينيدي أوناسيس. ما زلت أذكر زيارة جاكلين كينيدي لأحد معارضي.
كان الطقس بارداً وماطراً، وكانت جاكلين ترتدي معطفاً من الفرو وشالاً يلف رأسها. لم أعرفها في البداية، لكنّها عرّفت عن نفسها معربةً عن إعجابها بأعمالي قائلةً إنها تريد شراء لوحتيْن لتقديمهما هديةً لزوجها. أخبرتني بأنّها أحبّت الروحانية القريبة من رمزيّة الأيقونات في أعمالي.
وكيف انتقلت من البورتريهات الى الأحصنة؟
صحيح أنني رسمت البورتريهات، لكنني لم أتخصّص فيها بشكلٍ كامل. عملت على بورتريهات لبعض الشخصيات البارزة بلبنان، كالسيدة فيروز وغيرها من النخب الاجتماعية. أما بالنسبة الى الأحصنة، فهي تشكل جزءًا كبيرًا من هويتي الفنية. بدأت علاقتي بها في البرازيل، حيث تعلمت ركوب الخيل. عشقت هذه المخلوقات النبيلة، ورسمتها بجميع حالاتها؛ وهي تمشي، تركض، أو تقفز. وبات الحصان رمزاً يلازم أعمالي الفنية، حتى رُبط اسمي بها.
تهمّك العالمية؟
ليست العالمية بالنسبة إليّ الشهرة أو اعتراف النقّاد بأعمالي فحسب، بل هي خصوصًا وصول أعمالي إلى سواد البشر على اختلاف مستوياتهم، سواء كانوا قادرين على شراء لوحاتي أو مجرّد معجبين بها. ما يهمني هو بريقُ الحنان والحبّ الذي ألمحه في عيون مَن يستمتعون بأعمالي. عالميّتي كذلك في تنوّع جمهوري.
ما هي طقوسك في الرسم؟
أؤمن بأنّ الفن تعبيرٌ عمّا يختلج في نفس الفنان وأنّ لكلّ فنانٍ طقوسه وممارساته التي تضفي عمقًا خاصًا على أعماله. قد أعمل على عدّة لوحاتٍ في آنٍ وهذا النمط جزءٌ من تقنيتي، فأنا لا أستخدم الأكريليك الذي يسهل العمل به ويجفّ بسرعة، بل أفضّل العمل بالزيت على القماش ما يحتاج وقتًا أطول، فأعود إلى لوحاتي في مراحل مختلفة لأعمل عليها بتركيزٍ كبير حتى أنهيها بالكامل.
ماذا أضافت إليك ثنائية الانتماء الى لبنان وأرمينيا في آن؟
هذه الهوية المزدوجة مصدر فخرٍ كبيرٍ بالنسبة إليّ. لبنان بيئتي الحاضنة التي دعمتني ومنحتني فرصة الوصول إلى ما أنا عليه. وكيف أنسى جذوري الأرمنية؟ والدي من مدينة دياربكر، التي كانت ذات يومٍ عاصمة مملكة أرمينيا وموطنًا لإمبراطورية “ديكران العظيم”. ارتباطي عميق بإرثي الأرمني.
وأذكر هنا كلمات الأديب ويليام سارويان الذي قال: “حين يلتقي أرمنيان في أي مكانٍ ما في العالم يخلقان أرمينيا جديدة”. أجدني أقول الأمر نفسه عن لبنان. عشقي لوطني لبنان يفوق الوصف فأنا أحمل لبناني وأرمينيتي في قلبي أينما ذهبت.
هل تؤمن بالمصالحة يومًا ما بين الأتراك والأرمن؟
ما زال الجرح التاريخي المتمثل بالإبادة الأرمنية محفورًا في ذاكرتنا على الرغم من مرور 110 سنوات عليها، ولن يلتئم هذا الجرح ما دامت تركيا مستمرةً في انكارها ووصفها الضحايا بالإرهابيين، ما يجعل المصالحة أمرًا صعبًا ومعقّدًا. أقمت عدة معارض لإحياء ذكرى الإبادة بأسلوبي الفنّي إذ اعتبر الحفاظ على ذكراها من واجباتي الاخلاقية. أشعر أنني مقصّر تجاه أرمينيا فقد طُلب مني تنظيمُ معرضٍ خاص بالشتات الأرمني. عجزتُ عن ذلك لكثرة انشغالاتي، ولكنني أعتزم القيام بذلك قريبًا إن شاء الله.
ما رأيك بالفنانين التشكيليين الناشئين في لبنان، وهل من نصيحةٍ لهم؟
معظم هؤلاء يعمل بجديّة ولكنّني بصراحة لم أجد بعد مَن يثير دهشتي أو يحمل تأثيرًا عميقًا يُحدث فرقًا. ألاحظ تشابهًا كبيراً في الأسلوب والهوية الفنية بينهم سواء في الرسم التجريدي أو التصويري، وأنا شخصيًا أؤمن بضرورة تطوير كلّ فنان لأسلوبه الخاص بحيث تتعرّف الى أعماله حتى من دون رؤية توقيعه.
أما نصيحتي للفنانين الجدد فهي أن يستلهموا من تراثهم المحلي وثقافتهم نمطًا خاصًّا يعكس هويتهم ويميّزهم عن غيرهم. أنصحهم كذلك بالتواضع فبعضهم يتكلّم عن وصوله إلى القمة من أوّل عمل وتلك مقبرة فعلية للابداع. فأنا نفسي وبعد كلّ هذه السنوات من العمل المضني في مجال الفنّ التشكيلي ما زلتُ اعتبر نفسي بحاجةٍ الى تقديم الأفضل وأطمح دومًا الى المزيد فلا أوهم نفسي بأنّني وصلت الى القمّة.
ماذا ينقص لبنان ثقافيًا برأيك؟
ينقصه دعمٌ أكبر لحفظ إرثه الثقافي، فهل يعقل أنّه ليس لدينا متحفٌ رسميّ يخلّد ذكرى وأعمال كبار الفنانين التشكيليّين اللبنانيّين؟ لدينا متحفٌ وطني يركّز على الآثار وذلك أمرٌ جميل ولكنه لا يعوّض عن الحاجة الى متحفٍ من هذا النوع وهنا أشكر عائلة سرسق التي وهبت قصرها لهذا الغرض. لبنان بحاجةٍ كذلك الى دارٍ للأوبرا تقدّم فنونًا راقية. يعجّ بلدنا بالبيوت التراثية العريقة. لمَ لا نعمل على تحويلها إلى متاحف للفنّ والتراث بدلاً من هدمها أو استخدامها بشكلٍ تجاريّ فحسب؟ مؤسفٌ أن معظم الاستثمارات بمبالغ طائلة يقتصر على مشاريع ضخمة كالمولات أو المجمّعات الترفيهية، فيما يُهمل الجانب الفنيّ والثقافيّ تمامًا. دعم الفنّ والإرث الثقافي اللبناني حاجةٌ ملحّة للحفاظ على هويّة البلد ونقل تراثه الى أجيال المستقبل.
هل تعتقد أنّ الذكاء الاصطناعي قادر على الحلول مكان الفنان التشكيلي؟
لا أعتقد بأنّ ذلك ممكن. من الصعب جداً أن يحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ الفنان التشكيلي لأنّ الفنّ هو تعبيرٌ صادق عن روح الفنان، واحاسيسه الباطنية. الفنّان مزيج من الحنان والمشاعر الجيّاشة. يستحيل أن يمتلك الذكاء الاصطناعي مشاعر البشر. قد ينتج أعمالًا مثالية تقنيًا، ولكنّه يفتقر قطعًا إلى الروح التي تضفي حياةً على العمل الفني وكأنّها تنطق.