
قصّة أغنيتنا هذه المرّة تعود إلى عصر الدولة الأموية، أيّ قبل 1300 عام، وهي من الأغاني الخالدة التي نُطرب لسماعها حتى اليوم. كاتب هذه القصيدة هو الشاعر ربيعة بن عامر التميمي، الملقب بـ”مسكين الدارمي”، وكان أحد شعراء الحجاز البارزين، ومعروفاً بخفّة ظلّه وبراعته في الغزل، اذ كان ينظم الشعر متغنياً بجمال النساء. ومع تقدّمه في العمر، تخلّى عن نظم الشعر والغناء مكرّسًا وقته للعبادة متنقّلاً بين مكة والمدينة.
وفي إحدى زياراته للمدينة، التقى بصديقٍ قديم له من الكوفة يعمل تاجراً وكان يعاني من عجزه عن تصريف بضاعةٍ جلبها معه من العراق، وهي خُمُر بألوان متعددة. ورغم بيعه لمعظمها، إلا أنّ اللون الأسود منها لم يلقَ رواجاً بين نساء المدينة، فاشتكى التاجر حاله لصديقه الشاعر، الذي وعد بمساعدته بطريقةٍ مبتكرة.
نظّم الدارمي أبياتاً شعرية وأوكل لمُطربيْن مشهوريْن في المدينة، هما سريح وسنان، غناءها. وتقول كلمات الأغنية:
قُل للـمليـحة في الخمار الأسود
ماذا فعـلتِ بناسكٍ متعبِّد؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى وقفتِ له على بابِ المسجد
فـسـلـبتِ منـــه ديـنه ويـقـينه وتركتـه في حيـرةٍ لا يهتدي
ردّي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد
انتشرت الأبيات في المدينة كالنار في الهشيم، وشاع أنّ الدارمي ترك حياة الزهد وعشق امرأةً ترتدي خماراً أسود اللون، ما أدّى إلى إقبال نساء المدينة على شراء الخُمُر السود، حتى نفدت بالكامل من عند التاجر فعاد حينها الدرامي إلى حياة الزهد والتنسّك.
اشتهرت هذه القصيدة في القرن العشرين، بصوت الفنان الكبير صباح فخري، كما غنّاها مطربون بارزون آخرون كالراحل ناظم الغزالي. والقصيدة هذه دليل ملموس على ارتباط الفنّ بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، فهي أوّل ترويج لبضاعةٍ تجارية من خلال أغنية.
قُلْ للمليحة في الخمارِ الأسود ماذا فعلتِ بناسكٍ مُتَعبّد
قد كان شمّر للصلاة رداءه حتى وقفتِ له ببابِ المسجد
فسلبتِ منه دينَه ويقينَه وتركتِه في حيرةٍ لا يهتدي
ردّي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحقّ دينِ محمد
إن التسلّي حرامٌ في مذاهبنا وكيف أرضي بكفرٍ بعد إيمانِ
فشاربُ الخمرِ يصحو بعدَ سكرته وشارِب الحبّّ طول العمر سكران
أيّ شيء في العيد أهديه إليكِ يا ملاكي وكلّ شيء لديك
أسِوارًا أم خمورًا وليس في الأرض خمرًا كالتي تسكبين من عينيْكِ
أم ورودًا والوردُ أجمله عندي ذاك الذي من خدّيكِ
أم عقيقًا كمهجتي يتلظّى والعقيقُ الثمين في شفتيْكِ
ليس عندي أعزّ من الروح وروحي مرهونةٌ في يديْكِ
بلّغوها بلّغوها إذا أتيتُم حماها أنني متّ في الغرام فداها
واذكروني لها بكلّ جميل عساها أن تحنّ عليا عساها
وأصحبوها لتربتي فإنّ عظامي تشتاقُ أن تدوسها قدماها