“جو” صانعة مجد فان غوخ

ما كانت يوهانا “جو” تتصور، وهي تدخل حياة ثيو فان غوخ، أنها ستخطّ سطورًا خالدةً في تاريخ الفن. لم تمضِ سوى سنتين على زواجها حتى وجدت نفسها ضحية الفقدان القاسي؛ فقد رحل زوجها بسبب المرض، وانهار شقيقه فينسنت تحت وطأة اليأس.
تركت لها الحياة طفلًا رضيعًا وكنزًا غامضًا: مئات اللوحات التي لم يشترها أحد، لفنانٍ لا يثير اسمه اهتمامًا ولا إعجابًا. لم يكن لفينسنت من المجد شيئًا؛ لم تُبع أعماله، ولم تلتفت إليه نظرات النقاد، وكان عامة الناس يرون في لوحاته عبثًا عديم القيمة.
لكن جو لمست ما لم يدركه الآخرون. رأت خلف الألوان نبض روحٍ تتلوّى حزنًا ورجاءً، ووراء كلّ ضربة فرشاةٍ صرخة قلبٍ حزين. غاصت في رسائله إلى ثيو، فوجدت فيها نارًا مقدّسة من الألم والعبقرية، وأدركت ضرورة ألا يُدفَن هذا الصوت في الصمت.
عادت إلى هولندا لتكافح في سبيل لقمة العيش في بيت تؤجر غرفه. بذلت مجهودًا جبارًا لتنظيم المعارض، وحرصت فيما تفعل ذلك على نقل القصة، بقدر ما ركّزت على عرض اللوحات. فتحت بذكائها بابًا الى عالم فان غوخ الداخلي. نشرت رسائل الأخوين، فاكتشف الناس، لا جنونًا، بل عبقريةً نادرة، وتعطّشًا للجمال والحياة.
في العام 1905، أقامت جو أوّل معرض استعادي ضخم لأعمال فان غوخ في أمستردام. تغيّرت النظرة بعد ذلك. تبدّلت الأحكام، وبدأت المتاحف تتسابق لاقتناء ما كان بالأمس مُهملًا. وسرعان ما صار اسم فان غوخ يتردّد في أوروبا وخارجها كأنّه عاد من غياهب النسيان لنشر النور والجمال.
يُحتفى اليوم بفينسنت فان غوخ كأحد أعظم من أنجبتهم ريشة الفن، لكنّ الفضل الحقيقي يعود إلى امرأةٍ آمنت به حين لم يفعل أحد. صنعت جو، بصبرها وإيمانها، من الفناء خلودًا. لولاها، لما عرفنا “ليلة مرصّعة بالنجوم”، ولا تمتّعت عيوننا بـ “عبّاد الشمس”.
إنّها حكاية امرأةٍ لم ترَ الفن فحسب، بل ذلك الإنسان خلفه؛ قصةٌ تُذكّرنا بأن الإرث العظيم ليس من نصيب صانعه المباشر وحده، بل هو أيضًا لِمَن آمن، وناضل، وأصرّ على عدم ترك النور يضيع في العتمة.