مقالات

الخلق المُستَتِر: من عبقر الجنّ إلى الجين والجنين

قراءة لغوية – فلسفية في عبقرية الاستتار

يقيني أن الكلمات ليست مجرّد أدوات تواصل، بل مرايا لرؤية الإنسان للعالم، وخزائن لخبراته وأساطيره وعلومه. وعندما نتأمل جذور الكلمات التي تدل على مفهوم الخلق والإبداع، نكتشف شبكة مذهلة من الروابط الخفية ، تمتد من وادي “عبقر” العربي، الى בְּרֵאשִׁית‎ بريشيت اي في البدء وهو سفر التكوين الى γένος , génos الاغريقي إلى “genius” الروماني، إلى “gene” في البيولوجيا المعاصرة .

رحلة فكرية مثيرة تكشف لنا أن العقل البشري، مهما اختلفت لغاته، يتشارك في تصورٍ عميق هو أن كل خلق، وكل عبقرية، تبدأ من الخفاء.

 

عبقر والعبقرية: الإبداع بوحيٍ من الجنّ

في التراث العربي، يوصف الشخص الشديد الذكاء والإبداع بأنه “عبقري”، وهي كلمة تعود إلى وادي عبقر، الذي يُعتقد أنه مأوى للجنّ في مكان ما بين اليمن وشبه الجزيرة العربية. العباقرة أهل عبقر اي الجن ومن يتصل بهم من البشر الذين يُوحى إليهم بالشعر والفن وكأن العرب ربطوا الإبداع بمصدر مجهول يتجاوز الإنسان العادي، وهو خارق وغامض وخفيّ. فالمبدع لا يكتب أو يلحن أو يفكر لوحده ، بل هناك “جنيّ” يُلهمه، يهمس له من عالم آخر.

 

الجنيّ والعبقري: تشابه لغوي ورؤية كونية

المثير أن هذه الفكرة تظهر أيضًا في الثقافة الغربية، لا سيما في اللاتينية. فكلمة Genius لم تكن تعني “العبقري” فحسب، بل كانت تدل على روح حارسة تُولد مع الإنسان، ترافقه وتلهمه، وتكون مصدر قدرته الإبداعية. وعندما تحوّلت إلى الفرنسية (Génie)، ظلّت تحتفظ بمعنى “العبقرية”، ولكنها حملت أيضًا معنى “الجنّي” كما في قصص “ألف ليلة وليلة”، في تطابق مذهل مع السياق العربي: العبقرية تأتي من الجنّ المختفي في عبقر. وهكذا، بدا أن العرب والرومان واليونان ولاحقًا الفرنسيين والإنجليز قد التقوا على فكرة واحدة: الإبداع هو هبة من قوة غير مرئية، لا يُدركها العقل، لكن تستشعر بها الاحاسيس.

الجنين: الخلق في رحم الظلمة

في العربية، “الجنين” هو الكائن الذي لم يُولد بعد، اي المستتر في الرحم.

ومن الجذر نفسه (ج-ن-) نجد سلسلة من الكلمات التي تدور كلها حول فكرة الاستتار:

• جنّ: الكائن غير المرئي

• جنّة: المكان المحجوب

• جنون: تغييب العقل أو استتاره

• جُنّة: ما يُتّقى به، أي الدرع الواقي

فكأن هذا الجذر يحتوي في جوهره معنىً وجوديًا هو أن كل ما هو خفي، محجوب، مستتر هو نواة للخلق. الجنين إذن ليس مجرد مرحلة بيولوجية، بل هو صورة رمزية للخلق في طوره السري، تمامًا كما أن الإلهام الفني والفكري يبدأ في الظل، قبل أن يظهر في العلن.

الجين: الإبداع البيولوجي بلغة العلم

في العلم الحديث، كلمة جين (Gene) هي أصغر وحدة وراثية، مستترة في نواة الخلية، تحدّد صفات الكائنات الحية.

وهي مشتقة من الجذر اليوناني genos، والذي يعني “النوع” أو “الأصل”، وهو نفسه أصل لكلمات مثل:

• Genesis: التكوين، بداية الخليقة (ومنها سفر التكوين في التوراة )

• Generate: يُنتج أو يولّد

• Génie: العبقرية أو الهندسة

• Genetic: أي متعلق بالخَلق الوراثي

الجذر المشترك هنا هو *gen-، في اللغات الهندوأوروبية، ويعني: يُولد، يُنتج، يُنشئ. هكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام لغة واحدة للخلق، سواء كان بيولوجيًا أو فنيًا أو فكريًا. كل شيء يبدأ من جذرٍ مستتر، من نواة، من بذرة لا تُرى.

 

الجنس والعبقرية: عندما يتطابق اللفظ والمعنى

من اللافت أن كلمتي “جنس” و“Genius” تتشابهان إلى حد التطابق في اللفظ.

وفي اللاتينية، تنحدران من الجذر نفسه gen-، الدال على الولادة والإنتاج:

• Genus = النوع أو السلالة (ومنها gender، genetic)

• Genius = الروح المبدعة الخالقة

هذا التشابه ليس صدفة صوتية، بل يعكس رؤية ثقافية عميقة مفادها أن من يُنجب ومن يُبدع، كلاهما يشتركان في فعل الخلق. فـ”الجنس” يخلق الحياة، و”جنّ العبقرية” يخلق الفكرة وكلاهما ينطلق من عمق خفي.

حتى في العربية، فإن الجنس يرتبط بالتكاثر، أي بفعل الخلق، والنتيجة تكون دومًا جنينًا — مخلوقًا مستترًا ينتظر أن يُولد.

الخلق: يبدأ دومًا في الخفاء

هذا التوازي بين جنّ العبقرية، والجنين، والجين، والجنس ، ليس مجرد تشابه لغوي. إنه تعبير عن رؤية كونية موحدة، يتشارك فيها الإنسان القديم والحديث، بغضّ النظر عن اختلاف الثقافات او الأعراق . فكل خلق، كل فكرة، كل كائن، كل قصيدة، كل اختراع يبدأ جنينًا في رحم الخفاء ثم يُولد إلى النور، كأنه خرج من “وادي عبقر”، أو من نواة خلية، أو من رحم امرأة، أو من صفحة سفر قديم اسمه التكوين.

حين تفضح اللغةُ خريطةَ الخيال

من وادي عبقر إلى الجينات، من الجنّ إلى سفر التكوين، ومن الجنس إلى العبقرية، كنا نلاحق خيوطًا لغوية تبدو في ظاهرها متباعدة، لكنها في عمقها متشابكة حول فكرة واحدة: أن الخلق في كل صوره يبدأ في الخفاء.

هذه الرحلة بين الكلمات لم تكن مجرد استعراضٍ لغوي، بل كشفٌ لرؤية إنسانية كونية: أن الإبداع، سواء أكان شعريًا، بيولوجيًا، أم وجوديًا، لا ينبثق من الفراغ، بل من رحمٍ مستتر، من سرٍّ لا يُرى، من جنّيٍّ يهمس، أو جينٍ يُشفّر ؛ وها نحن نصل إلى حقيقة لافتة هي أن أصل الكلمة لا يشرح معناها فحسب، بل يكشف عمق الفكرة التي صنعتها وأن اللغة ليست مرآةً للواقع فقط، بل مرآةٌ للفكر، وخارطةٌ للخيال، وسجلٌّ لما آمنت به البشرية حين سمّت الأشياء.

حين نتتبع أصول الكلمات، فإننا لا نكتفي بفهمها، بل نفهم أنفسنا: كيف تخيّلنا الخلق؟ من أين ظننا أن العبقرية تأتي؟ وكيف رأينا الحياة تنبثق من المجهول؟

وهكذا، تُصبح اللغة أداة تأمل، وأصول الكلمات مفاتيح لفهم أصول الفكر ، ذلك الفكر الذي طالما ربط بين المستتر والمخلوق، بين الخفاء والإبداع، بين الجنّ والعبقرية.

مستشار سياسي |  + posts

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى